سلام على قوص !

إذا زرت قوص ولم تكن قد قرأت شيئا عن تاريخها من قبل فستبخسها حقها، لن ترى عيناك فيها ما قد يختلف عن بولاق أو إمبابة أو دار السلام في القاهرة، إذ ستقدم لك قوص نفسها ريفا استحال إلى مدينة أو مدينة “غارقة في التريف!”.

أنت تسيء الظن بقوص على هذا النحو، وتقرأ الحاضر المتدهور مغمضا طرفك عما كتبه المؤرخون عن قوص التي كانت وفقا لوصفهم قبل ألف سنة “أعظم مدينة مصرية بعد الفسطاط” على طول النيل.

قوص مدينة ثرية بالحضارة لدرجة أنك تجدها “ملقاه على قارعة الطريق”.

في هذه المدينة ازدحام أثري يجاور كل فصل فيه الآخر بدرجة مدهشة: مصري قديم – يوناني-روماني- قبطي – إسلامي.

أحجار المعابد المصرية القديمة تزاحمها حيوانات الحقل وروث البهائم؛ المسجد العمري الذي يعد أول مسجد تأسس في المدينة مغمور وسط الزحام محاصر بسوق شعبي مكتظ وفوضى عارمة.

لو كنت قرأت من قبل عن قوص ستسأل نفسك “أين هي تلك المدينة التي افتتن بها كل الرحالة، وأقام بها كل الملوك معابد وكنائس ومساجد ؟ من الأسئلة الأخرى التي لن تجد لها تفسيرا:

لماذا كل هذه البطالة في شوارع المدينة؟ مازلت أذكر ما قاله بعض الرحالة عنها من أنها “وطن العلماء …وجنة الأرض ….وملتقى تجارة عدن”هذا التعبير الإسلامي العربي قام في اساسه على تاريخ سابق من عهد قدماء المصريين وازدهر في العهدين اليوناني والروماني.

فعلى الخرائط المصرية الصادرة في مطلع القرن العشرين ستجد أن اسم قوص (مدينة الصعيد الشهيرة) قد أضيف إليه الاسم القديم للمدينة وهو “أپولينوبوليس بارﭬا”.

وتعود قصة تسمية قوص بهذا الاسم إلى تقليد شهير جاء به الإسكندر الأكبر إلى مصر في عام 332 ق. م وهو اعتبار نفسه سليلا للحضارة المصرية وأنه لا فرق بين الآلهة المصرية القديمة والمعبودات اليونانية.

الحقيقة أن الإسكندر لم يخترع ذلك، ففي عام 450 ق.م كان قد سبقه “أبو التاريخ” هيرودوت الذي كان في زيارته لمصر يعطي دوما اسما مرادفا للآلهة اليونانية المقابلة لمصر، وخاصة كبريات الآلهة اليونانية.

ما بين زيارة هيرودوت والإسكندر نحو 120 سنة، يمكنك اعتبارها فترة تجميع المعلومات التي كانت تنقل من مصر إلى اليونان فيما يشبه بالمعلومات الاستشراقية او الاستخباراتية، حتى إذا جاءت جيوش الإسكندر كانت على دراية ثقافية وعلمية بالأرض التي سيحتلها اليونان، تمام كما كان حلم نابليون بونابرت بعد الإسكندر بنحو 2100 سنة ونظم حملته بشكل يقوم على: كتيبة من العلماء + جيش من المحاربين.

نعود إلى هيردودوت وسنجده أعطى اسم أحد أشهر الآلهة اليونانية “زيوس” مقابلا لأكبر الآلهة المصرية “آمون”، كما قابل هيرودوت بين المعبود “ديونيسوس” اليوناني و”أوزوريس المصري”.

كان اعتماد هيرودوت ثم الإسكندر ومن جاء بعدهم طيلة القرون الثلاثة التي خضعت فيها مصر لحكم البطالمة وقبل غزو الرومان هو العثور على التشابه بين الآلهة المصرية ونظيرتها اليونانية.

ولأن أپولو مشهور بأنه إله الشمس والضوء والمعرفة والزراعة فقد تم “تبنيه” هنا في أرض الشمس والضوء والزراعة في عدة مدن مصرية في الصعيد ومن بينها مدينة “قوص” التي أصبح اسمها “أپولينوبوليس” أي مدينة المعبود اليوناني “أپولو”.

أما كلمة “پارﭬا” فتعني باليونانية “الصغرى” وذلك لأن اسم أپولينوبوليس كان يطلق على مدينة أكبر في الجنوب هي “إدفو” التي سماها اليونانيون “أپولينوبوليس ماجنا” وتعني ماجنا “الكبرى”.

الخرائط الحديثة التي صدرت منذ منتصف القرن العشرين حذفت للأسف اسم “أپولينوبوليس” الذي كان يجاور اسم “قوص”، وحين تزور قوص اليوم لن تعرف أي معلومة من التي حوتها السطور السابقة، فلا توجد أية إرشادات أثرية أو خرائط أو أية لافتة ثقافية تعرف أبناء المدينة وزوارها بتاريخ المكان العظيم.. رغم أن الأمر سهل بسيط… لا يكلف كثيرا من المال أو الجهد أو الوقت.

اشتهرت قوص بأنها ميناء التجارة النهري الذي كان يستقبل البضائع من عدن في اليمن فكانت محطة أخرى لجنة “عدن” المصرية على النيل.

وبينما أنا حائر بين هذا المشهد وذاك تصادف أن ارتفع أذان الظهر فدخلت المسجد العمري العظيم، صليت الظهر والعصر جمعا وقصرا ورأيت الأعمدة الرومانية التي استغلها المسجد بعد دخول الإسلام، تجولت للمرة الثانية بعد آخر زيارة للمسجد قبل عامين فأعدت اكتشاف ما فاتني في المرة السابقة ونظرت مليا إلى المنبر الخشبي العتيق الذي رفض أهل قوص مؤخرا نقله لمتحف القاهرة لأنه جزء من عراقة المدينة العظيمة، ومن أعلى سطح المسجد أخذت صورة .

بعد الصلاة زرت الكنيسة الإنجيلية وتعرفت على رئيسها الذي أخذني واثنين من طلابي في الدكتوراه في جولة كاشفة لتاريخ الأثر المسيحي الذي يعود عمره لنحو 200 سنة مؤكدا أن هذه كنيسة قبطية نمت وتطورت في الداخل القوصي ولم تفد مع الأوروبيين.

وبينما نتبادل التعارف مع القسيس الذي يرتدي زيا عصريا ولا تفارق الابتسامة وجهه دونت اسمه في دفتري: “الأب بسخرون”.

سألني وأنا أدون اسمه “هل تعرف معنى بسخيرون؟”أسعفتني معرفتي باللغة الروسية التي بها كثير من المؤثرات اليونانية المسيحية فقلت له “أعرف أن بسخا تعني صوم أو صبر عل الصوم” فقالي لي “قربت جدا …ثم قال وابتسامة بهية تعلو وجهه: تعني “القديس المتألم”.

ودعت القديس المتألم صاحب الابتسامة العريضة والترحيب الكريم وأكملت زيارتي لقوص باحثا فيها عن تاريحها العظيم.

وبينما أفتش فيها تذكرت أنه يطيب لكنيستنا المصرية أن تسمي نفسها دوما بـ”القبطية” وذلك لأن نشأة المسيحية في مصر قصة متفردة ولتطورها سمات ومعالم وثيقة الصلة بالقبطيين (المصريين) أكثر من أي مسيحيين آخرين في العالم.

لا عجب إن قلنا إن كل المصريين أقباط، فالقبط كلمة منسوبة إلى بلدنا التي كان الغرباء واليونان والرومان والعرب الوافدين يعرفونها باسم “هيجيبت” أو بشكل مختصر ينسبونها إلى طيبة وقنا ومدينتها الشهيرة “كوبتوس” أو “قفط” أو “قبط”.

لذلك لا توجد كنيسة مسيحية في العالم تحمل اسم “قبطية” إلا كنيستنا.

في روسيا مثلا كنت شاهد عيان على وفود رجال دين من كنيستنا القبطية معتقدين أننا والروس أصحاب مذهب ديني واحد وهو المذهب “الأرثوذكسي”.

ورغم ما في ذلك من صحة ظاهرية إلا أنهم بعد فترة يكتشفون أن اشتراك المذهب لا يجمع كل شيء وأن لكنيستنا القبطية تفردها وتميزها.

لكل ما سبق تجدني وقفت في مدينة قوص بصعيد مصر معجبا باسم الكنيسة المواجهة للمعبد البطلمي والوقعة غير بعيد عن المسجد العمري حاملة اسم “كنيسة الأقباط الإنجيليين”.

أن تكون الكنيسة قبطية وإنجيلية في آن فهذا أمر يدعو للتعلم والفهم واكتساب معلومات جديدة.

معرفتي بالكنائس الإنجيلية طفيفة سطحية، بعضها مستمد من ترجمات لمقالات أجنبية التي يشترك جميعها في أن الكنيسة الإنجيلية لا تكترث كثيرا بالمظاهر أو الطقوس الشكلية، إذ يهمها في المقام الأول الوصول للإنسان.

لا أود الدخول هنا في تفاصيل الفرق بين الكنائس على أسس لاهوتية أو تفسير للكتب المقدسة، لكني سأذكر فقط أنني رأيت التطبيق العملي لما قرأت مترجما في الكنائس الإنجيلية في البرازيل.

تعد البرازيل أكبر دولة كاثوليكية في العالم ولذلك حين كنت أتجول قبل 10 سنوات في شوارع مدنها الكبرى كان يدهشني الأماكن العادية التي يختارها الإنجيليون (وهم أقل انتشارا من الكاثوليك) لإقامة طقوس الصلاة.

أذكر مثلا أنني انضممت مراقبا وراصدا لآخر صفوف صلاة كانت تقام في كنيسة إنجيلية في جراج (مرآب) للسيارات في شارع كبير في ساو باولو.

الجراج شبه مضيء، بسيط، في الطابق التحتي من عمارة كبرى، الجراج مفتوح على الشارع لكل من يسير مارا أو عابرا.

الصلاة أقرب لغناء وبهجة تفيض بالطاقة المتدفقة في أجساد البرازيليين الأصحاء الأشداء وأجسامهم مغمورة بعرق استوائي حار، الناس يأتون بأي لباس بسيط، وبأي شكل وهيئة وأغلبهم من السود البسطاء الفقراء.

حين أشرت وفق مقال سابق إلى أنني زرت الكنيسة الإنجيلية في قوص تفضل أحد أساتذة الدراسات المسيحية في مصر بأن أرسل لي مقالا عن تاريخ كنيسة قوص الإنجيلية .

المقال منشور في ديسمبر 2020 في مجلة تحمل اسم “الهدى”.

يقول الأستاذ الجليل الذي أرسل لي المقال إن “الهدى” مجلة عريقة، صدر العدد الأول منها في 1911ومستمرة حتى الآن وهي مجلة الكنيسة الإنجيلية المشيخية في مصر.

في المقال الذي يحمل عنوان “الكنيسة الإنجيلية في قوص” يعطي المؤلف (وهو نفسه الأب بسخرون الكريم البشوش الذي قابلته في زيارتي لقوص قبل اسبوعين) تعريفا بتاريخ الكنيسة التي تأسست في 1868 ويبين كيف أنها تطورت من مناخ قبطي خالص.

على نحو ما رأيت معي في المقالين الأخيرين فإن قوص في الحقيقة مدينة عريقة تضم متحفا مفتوحا للتاريخ والتنوع الثقافي: مصري قديم – بطلمي وروماني – عربي وإسلامي – قبطي مسيحي.

نقلا عن صفحة الدكتور عاطف معتمد

نقلا عن الأهرام الكندى

التعليقات

أخبار ذات صلة

صفحتنا على فيسبوك

آخر التغريدات