مرآة البحر!

من أكثر الأدوات الفلكية شهرة في العصور الوسطى أداة تسمىى “أسطرلاب”.

ورغم أنها انتشرت وتطورت على يد العلماء المسلمين إلا أن الاسم يوناني مؤلف من مقطعين ويعني “مرآة السماء”.

مرآة السماء اسم على مسمى، فهي تحاكي صورة الأبراج السماوية بشكل قابل للتعديل والقياس والتناظر وليس في صورة جامدة عاطلة عن الحركة.

ولكلمة مرآة وقع السحر في النفوس لأنها تعني أن بوسعنا رؤية انعكاس صورتنا بما لا تراه أعيننا بشكل مباشر. فحين ننظر لأنفسنا في المرآة نرى وجوهنا وملامحنا وقد تغيرت عبر الزمن، صرنا أكثر تألقا أو خرجنا من معارك الحياة مهزومين، أحيانا بشرف وأحيانا بمرارة.

ولنجيب محفوظ رواية شهيرة تحمل اسم “ميرامار” والكلمة إسبانية تعني “مشهد البحر” أو “مرآة البحر”.

وميرامار اسم مقهى (حقيقي أو افتراضي) كان يجلس عليه محفوظ في عطلاته في الإسكندرية.

وقد أعطى الاسم لفندق صغير تدور فيه أحداث روايته.

ففي تلك الرواية رصد محفوظ المنعطف الكبير في تاريخ مصر الاجتماعي

كان محفوظ يجلس هنا حيث التقاء شوارع النبي دانيال ومحطة الرمل بالبحر في الميناء الشرقي، يجلس فيطيل النظر إلى البحر، خليج طبيعي أقرب إلى حمام سباحة ضخم، وأشبه بحلبة تدريب آمنة لمراكب الصيد الصغيرة، لاجون طبيعي يبدو فيه البحر هادئا وفسيحا في آن، في الأفق تقف بشموخ قلعة قايتباي، في الخلف بارات وكافيهات ومطاعم أوروبية من بقايا الإسكندرية التي يسمونها “كوزمبوليتانية”.

زمن رواية محفوظ يصور لنا الإسكندرية ذات كورنيش بهيج عامر بأشجار النخيل فارعة الطول، مع عدد محدود من المارة، وعدد أقل من السيارات، كانت الإسكندرية وقتها تنسلخ من الملكية وتستقبل النظام الجمهوري.

في المشهد السياسي يتراجع الوفد ويصعد الاتحاد الاشتراكي، تختفي الوجوه الأوروبية الشقراء والبيضاء والحمراء لتحل محلهم سمرة المصريين: أفندية بملابس إفرنجية وفلاحون بجلاليب ريفية.

في تلك الأجواء انتبه محفوظ إلى ضرورة إمساك اللحظة التاريخية لشخصيات متباينة في معتقداتها وطبقاتها الاجتماعية ومستوياتها الاقتصادية.

وبدلا من أن يلجأ إلى رقعة جغرافية واسعة ويرتحل بالأبطال من مدينة إلى مدينة أو من حي إلى آخر، إذ به يجمع الأبطال كلهم في “بنسيون” يطل على البحر وأعطى لهذا البنسيون اسم “ميرامار”.

البنسيون نوع من الفنادق يقدم حياة شبه كاملة لكبار السن أو المسنين أو من لديهم أموال يعيشون بها فيما يشبه المعاش لفترات طويلة ويحصلون على وجبات طعام متكاملة، ويعوضون الوحدة والشيخوخة بالحياة مع نزلاء الفندق.

نفهم من محفوظ أن يوليه 1952 حين جاءت فرضت الحراسة على بعض أبطال الرواية، وسلبت رونق السادة، وساوت المصريين بهم، لم يتحمل الأجانب الوضع ففروا، أو شاخوا وهرموا، ثم ماتوا.

يشكو بعض أبطال الرواية من أن الإسكندرية انتكست بعد العهد الجمهوري مع صعود المصريين لسدة المشهد وانتثر فيها القبح، بعدما كان الجمال يمرح فيها سبائك من ذهب.

كعادة نجيب محفوظ الذي اختار الأدب بدلا من السياسة، وضع كل الأسئلة الصعبة على لسان أبطاله وخرج هو آمنا مأمونا من كل معركة فكرية، لا يزعم أنه ثوري أو معارض، يحمي موهبته من تعريضها لغضب الغاشمين المستبدين بالسلطة.

الذين يحبون القراءة المتأنية المتمهلة سيجدون الرواية بالطبع أكثر ثراء من الفيلم الذي أعطته السينما نفس الاسم، وسيتوقفون طويلا أمام حوارات وأسئلة معلقة دون إجابة: في الدين والأخلاق، والسياسة والاقتصاد ، مع جولة ثرية فخيمة بأسماء حياة اللهو والانطلاق ومواطن الملذات في إسكندرية منتصف القرن العشرين، حين كانت “مرآة البحر”.

في “ميرامار” أسئلة المرحلة الانتقالية، وأسئلة أخرى صعبة عمن دهستهم هذه المرحلة، وعمن ربحوا منها، وعمن وقفوا في منتصف الطريق.

لم يكتب محفوظ هذه الرواية في عمق الأحداث في منتصف الخمسينيات بل كتبها بعد فترة الصياغة والتبلور، فقد ظهرت الرواية أول مرة سنة 1967.

ولا عجب في ذلك، فالأحداث التي يتعرض لها أي جيل لا تفهم كاملة في أول 10 سنوات بل ربما تحتاج عقدين أو أكثر حتى يستوعب الناس ما حدث، وكيف حدث، وعلى الأرجح لن يستفيدوا كثيرا من هذا التعلم، لأن العمر يفوتهم والعزيمة تفتر منهم والأمل يتناقص مع تناقص المتبقي من العمر.

لكن الجيل الأحدث – المتحرر من عقدة ذنب وسذاجة الأخطاء التي ارتكبها الجيل السابق وغير المدين لتملق الرابحين من الأحداث الكبرى – هو على الأرجح الذي يتعلم الدرس

ويفهم الحقيقة وكأنه ينظر في الأسطرلاب، مرآة السماء، أو يرى صورة المجتمع في مرآة، كتلك التي نرى شطرا منها في “ميرامار”.

تحرير نقلا عن الأهرام الكندية

التعليقات

أخبار ذات صلة

صفحتنا على فيسبوك

آخر التغريدات