كمال زاخر يكتب الكنيسة صراع أم مخاض ميلاد

الكنيسة صراع أم مخاض ميلاد
سنوات القلق (جزء 4)
8 ـ إرهاصات بعث ملتبسة
:::::::::::::::::::::::::::::::
فى الترتيب الهيراركى (الهرمى) الكنسى يأتى موقع البابا البطريرك على قمة الهرم، يعاونه ويقود الكنيسة معه مجلس المطارنة والأساقفة، ولكل منهم نطاق جغرافى يتولى مسئوليته الرعوية والتعليمية يسمى إيبارشية (مقاطعة)، وتضم عدداً من الكنائس يقوم على رعايتها القمامصة والقسوس، يعاونهم فيها الشماسة.
واستقر الأمر على أن يتم اختيار البابا البطريرك والآباء الأساقفة من الرهبان، المتبتلين، بينما يتم اختيار الآباء القمامصة والقسوس والشمامسة من الخدام، المتزوجين أو المتبتلين، والمصدر الرئيس للفئة الأولى “الأديرة” بينما تكون الإكليريكيات هى المصدر الرئيسى للفئة الثانية، باستثاء الشمامسة الذين يتم اختيارهم من الصبية والشباب بعد إعدادهم وتدريبهم داخل الكنائس المحلية.
وتأسيساً على ذلك نحن ازاء ثلاثة مصادر، الأديرة والإكليريكيات ومنظومة تعليم النشء ـ مدارس الأحد والإجتماعات النوعية ـ وبحسب حال المصادر تكون حالة الكنيسة، صعوداً وتراجعاً، وينعكس ذلك بالضرورة على قدرة الكنيسة على تحقيق رسالتها، وينعكس حالها بالتبعية على منظومات الرعاية والتعليم داخلها.
ويرتبط نجاح الكنيسة فى رسالتها بقدر ادراكها ووعيها لماهيتها، فالمسيح هو “موضوع” إيمان المسيحية، والكنيسة، البشر والمؤسسة، هى “موضع” الإيمان؛ تعيشه وتعلنه، وتطفق تبشر به كل العالم. ومن ثم فانشغال الكنيسة “الموضع” بمواضيع أخرى يقذف بها بعيداً عن مسارها الصحيح.
وتتميز الكنيسة القبطية الأرثوذكسية بأنها “كنيسة الشعب” تترجم فى تفاصيل يومها قيمة التكامل والتناغم، وقد حولت الزمن الى زمن ليتورجى، توقِّع فيه تدبير الخلاص على الأيام والشهور، فى إبداع وبصيرة، تشهد لها، بين القراءات اليومية والألحان الموسمية، وطقوسها وأصوامها، وآيتها الحضور الإفخاريستى الذى لا ينقطع، ولا تعرف الطبقية بين مكوناتها، وتحترم، فى تراتبيتها توزيع المهام والمسئوليات، تعرف السلطان ولا تنحرف به إلى التسلط.
وإذا كنا قد تناولنا بعض من ملامح وملابسات إعادة تأسيس الإكليريكيات، ولنا عودة لما طالها من ارتباكات وتراجعات، فنحن اليوم نعرج على منظومة الرهبنة، والتى طالها ما طال الكنيسة والأقباط على إثر الإنقطاعات المعرفية، والعزلة التى فرضت على المشهد بجملته، والتى أشرنا إليها قبلاً، حتى صارت الأديرة، لقرون طويلة، محلاً لروايات تلفها الأساطير تضم بين جنباتها كهول وشيوخ انقطعت بهم السبل عن الحياة العامة، لكنهم استطاعوا بالرغم من ذلك أن يحافظوا على اساسيات الحياة الرهبانية، وأن يختبروا حياة التقوى، واجتهدوا فى الإحتفاظ بجذوتها مشتعلة، رغم ما عبر عليها من أنواء واستهدافات، وَهَنْت دهراً لكنها لم تمت.
وقد انتبهت الكنيسة مبكراً لما تملكه الرهبنة من قدرات وخصوصية، وقد عاشت النسك والترك والبتولية برؤية انجيلية، منذ تأسيسها الأول فى القرن الرابع الميلادى، وقد تجلت هذه القدرات فى الدور المحورى الذى قام به مؤسسها القديس انطونيوس، الذى خرج من عزلته بالصحراء الشرقية وقصد الإسكندرية يجول بين الناس ليثبّت إيمانهم بينما كان البابا اثناسيوس يخوض معاركه فى “نيقية” معلناً يقينية الأسكندرية بلاهوت الإبن، ومساواته للآب، وانسانيته الكاملة، التى بها انتقلت لنا كل مفاعيل الفداء والخلاص، وانتقلنا من دائرة العبيد إلى البنوة.
كانت الرهبنة آنئذ، حركة علمانية شعبية بحصر المعنى، فتجلى وقتها معنى التكامل بين الإكليروس فى أعلى نقطة وبين العلمانيين فى أبهى صورهم، وبينهما نضع ايدينا على سر كنيسة الإسكندرية أنها جمعت بين “المعرفة الدينية” و “الأخلاق الدينية” والتى تترجمها ادبياتها فى مصطلح “حياة التقوى”، والتى عندما تغيب نتعرض لرياح الصراع، ويتحول إختلاف الرؤى الصحى إلى معارك طاحنة مفسدة للكروم.
سعى البابا ق. اثناسيوس لاستثمار قدرات الرهبنة لتصبح قيمة مضافة للكنيسة المؤسسة، فعرض على ق. انطونيوس أن يبقى معه يعاونه فى تدبير الكنيسة، لكنه تمسك بكونه راهباً ومحله المختار مغارته القابعة فى جبال البحر الأحمر، وأمام الحاح البابا البطريرك أرسل له اثنان من تلاميذه الرهبان لينضموا إلى طاقم معاونيه، ويصير الأمر تقليداً، ينقله عنه الباباوات اللاحقين، ويرسم بعضهم اساقفة، ثم ينتهى الأمر ليصير كل الأساقفة ـ والبطاركة ـ من الرهبان حصراً، إلا قليلاً.
وتجرى فى نهر الكنيسة والبلاد مياه كثيرة، وتقتحمنا رياح التنوير القادمة من الغرب، وتدرك الكنيسة ما يحيق بها من أخطار، ولم يعد القصور الذاتى كافياً لاستمرار حركة عجلتها، فتبدأ فى حركة استفاقة، رأينا طيف منها مع البابا كيرلس الرابع، واستكملها البابا كيرلس الخامس، والذى أمتدت حبريته لنصف قرن ويزيد (1874ـ 1927) الأمر الذى اتاح له السير فى مسارات نهضوية عديدة، لكننا لا نفهم التباين بين موقفه من حراكين علمانيين دعم أحدهما بقوة، تأسيس مدارس الأحد، وناصب الآخر العداء، بقوة أيضاً، إنشاء المجلس الملى؛ لكنه يبقى علامة مضيئة فى مسار التنوير.
تشهد الأديرة قدوم ثلاثة شبان طلباً للرهبنة، إثنان عام 1948، (سعد عزيز ـ ليسانس حقوق ـ الأب مكارى الصموئيلى ـ السريانى)، (يوسف اسكندر يوسف ـ بكالوريوس صيدلة ـ الأب متى المسكين الصموئيلى ـ السريانى)، والثالث عام 1954. (نظير جيد ـ ليسانس آداب ـ الأب انطونيوس السريانى) يجمعهم أنهم باكورة من يقصدون الرهبنة من خريجى الجامعات، وكان كل منهم يحمل تصوراً ودافعاً مختلفاً عن الآخرين.
ويمكن للمتابع أن يقسم تاريخ الرهبنة إلى ما قبل رهبنة ثلاثتهم وما بعدها، إذ صاروا حافزاً لكثير من الشباب للإقتداء بهم، ليشهد دير السريان تحديداً إقبالاً لافتاً من العديد من طالبى الرهبنة من خريجى الجامعات بل وبعضهم هجر كليته قبل ان يستكمل دراسته ليلتحق بالدير، وكان لشبرا ذلك الحى القاهرى العريق نصيب الأسد.
ويمكن فهم الكثير من تطورات المشهد الكنسى من خلال فهم العلاقة بين هؤلاء الشباب الثلاثة فيما بينهم من جانب، وفيما بينهم وبين الأب القمص مينا المتوحد (البابا كيرلس السادس فيما بعد)، من جانب أخر.
اللافت أن الراهب الشاب انطونيوس السريانى (عامان من الرهبنة)، والراهب الشاب متى المسكين (ثمانية أعوام من الرهبنة) يتقدمان للترشح للكرسى البابوى، عقب خلوه برحيل البابا يوساب الثانى، (نوفمبر 1956)، الأمر الذى ازعج الحكام الجدد وهم من نفس جيل هؤلاء الرهبان، وأزعج شيوخ مجمع المطارنة والاساقفة، إذ توجس كلاهما من أن يكون البابا القادم منهما، وإن تباينت الأسباب، فيتم تعديل لائحة إنتخاب البطريرك لتصدر بعد شهور قليلة (1957) تحمل شرطين جديدين لمن يتقدم للترشح؛ ألا تقل مدة رهبنته عن خمسة عشر عاماً، وألا يقل عمره وقت الترشح عن أربعين عاماً، فيستبعدا كلاهما، إجرائياً. فيبادر شباب الرهبان بالدفع ـ عبر من لهم حق ترشيح اسماء ـ بإسم الراهب القمص مينا المتوحد، الذى يلقى ارتياحاً من جهتى الحكم بالدولة والكنيسة، ليصبح البابا كيرلس السادس.
ويصير التساؤل هل كانت محاولة الترشح بداية المواجهة بينهما، أم كانت إحدى نتائجها؟
كان كل منهما ينتمى لمدرسة مختلفة، فى قراءة مستقبل الكنيسة، المنهج والآليات، لكنهما جذبا العديد من الشباب خلفهما، لتتغير خريطة الرهبنة، وتشهد الأديرة نوعيات جديدة من قاطنيها، وتتعدد التخصصات المهنية والخبرات داخل أسوارها، وتتوسع الأديرة تبعاً لذلك فى استصلاح الأراضى الصحراوية المحيطة بها، ويتبعها ظهور التصنيع الزراعى بها، وتحقق الأديرة اكتفاء ذاتياً، وتخرج بمنتجاتها الى الأسواق حتى الى عواصم المحافظات، وبعضها الى التصدير. وتصبح رقماً مهماً فى اقتصاد الكنيسة.
يرحل البابا كيرلس السادس، 1971، ليترشح الاب متى المسكين والأنبا شنودة اسقف التعليم مجدداً للكرسى المرقسى، ومعهما آخرين، ويرسل أسقفان خطاباً للرئيس السادات يحذرانه من “الراهب الأحمر”، يشيران فيه إلى ان للأب متى المسكين ميول شيوعية، وتزامن هذا مع اتجاه نية الرئيس لتصفية الوجود السوفيتى بمصر، فيستبعد من الإنتخابات، (!!). وعندما يلتقى السادات بالأب متى المسكين فى أزمة سبتمر 1981 يطلعه على الخطاب.
يأتى البابا شنودة الثالث الى البابوية، وتشهد الكنيسة توسعاً فى رسامة اساقفة شباب، تحت شعار “إيبارشيات أصغر خدمة أفضل”، وتتوسع الأديرة فى رسامة الرهبان كهنة، وتظهر قوائم انتظار بحسب اقدمية الرهبنة، وتزاحم أعمال الزراعة والتصنيع الزراعى والتسويق واجبات الراهب الأساسية، التى تجاوزت مفهوم “عمل اليدين، وتنفتح أبواب الأديرة للزيارات، التى تصبح أحد محاور السياحة الداخلية على برامج شركات السياحة، لتبتلع ما بقى من وقت الراهب وربما سلامه، ويختفى شيوخ البرية، ويختفى معهم نسق التلمذة عمود الرهبنة الفقرى، وتئن الأديرة وتئن الكنيسة، وينعكس هذا على المنتج الديرى البشرى، وعلى الدور البحثى للأديرة.
وللحديث بقية.

التعليقات

أخبار ذات صلة

صفحتنا على فيسبوك

آخر التغريدات