كمال زاخر يكتب الكنيسة صراع أم مخاض ميلاد

21 ـ تفعيل آليات التنوير
:::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::
لا تملك الكنيسة إلا أن تكون نوراً للعالم، هكذا وصفها المسيح، بل هى الكيان المنظور للمسيح متجسداً فى الزمن، بامتداد التاريخ واتساع الجغرافيا، نوراً لعالم يلفه الظلام، وقد حُمِّلت برسالة التنوير مدعومة بقوة الروح القدس، يوم الخمسين، وكلما أدركت سر التجسد وعاشته كلما ازدادت استنارتها وعكسته بقوة على العالم الذى يستصرخها أن تعبر إليه وتلقى له باطواق النجاة التى بحوزتها.
والكنيسة القبطية استطاعت أن تحفظ وديعة الإيمان رغم كل ما جازت فيه من آلام واستهدافات مريرة، من خارج ومن داخل، كانت ليتورجيتها الوعاء الذى تنقلت به عبر تاريخها، تنقل محتواها من اليونانية إلى القبطية ثم إلى العربية، وتحمل صفحات طقوسها مقاربة بين تلك الحقب، ويظل الآباء المؤسسون مرجعيات تضبط مسارات ايمان الكنيسة الجامعة.
لكن هذا لم يمنع أن تجوز ايضاً سنوات وربما عقود وقرون عجاف، بفعل انقطاعات معرفية فرضتها دوامات المحتلين بتعدد جنسياتهم، وعندما ولدت الدولة الحديثة، بمعايير أزمنة الولادة، (1805)، كان الشباب القبطى يجتهدون فى سعى دؤوب أن تعيد الكنيسة تواصلها مع ما انقطع، وبطبيعة الحال كانوا محكومين بمعطيات لحظتهم، وهو ما تعرضنا له قبلاً، حتى بدأ تيار التكريس القبطى الأرثوذكسى، مع النصف الثانى من القرن العشرين، وكانت الليتورجية هى المخزون الإستراتيجى الذى أخرج رواد التكريس منه كنوز الوعى اللاهوتى الآبائى، فلم تكن استعادة نظرية جافة، بل هى حراك للاهوت معاش، كانت تختزنه الذهنية القبطية فى اللاوعى وتردده أحياناً بآلية وها هى تجتر معانيه وأسراره.
وفى هذا السياق تبرز أسماء رائدين من رواد الإحياء الآبائى نذرا حياتهما، بعيداً عن الصخب وحسابات المكسب والخسارة، لتأسيس وشق طرق هذا الإحياء، الأب متى المسكين والدكتور نصحى عبد الشهيد، وقد اقتربنا من تجربتيهما المتفردتين فى صفحات سابقة هنا، وقد أثريا بشكل مباشر، ثم من خلال تلاميذهم، المكتبة المسيحية العربية بسلاسل من الدراسات والتراجم الآبائية المؤسسة والداعمة لسعى استرداد كنيسة اليوم حيوية الكنيسة الأولى، وضبط بوصلة الإيمان والوعى باللاهوت الشرقى.
وفى استبصار يشبه الرؤية تأتى كلمات المتنيح قداسة البابا شنودة الثالث، التى خطها مرتين، حين كان علمانياً ـ نظير جيد ـ فى مقدمته الفريدة لكتاب “حياة الصلاة” (1952)، وحين صار اسقفاً للتعليم فى معرض دفاعه عن الكلية الإكليريكية، ورصدتها مجلة الكرازة فى اصدارها الأول (اكتوبر 1967)، والتى تقول (أنه كأى عمل من أعمال الله، كان لابد أن يحاربه الشيطان ، وكأى عمل من أعمال الله كان لابد أن ينتصر فى تلك المحاربات ..).
فما بين التعليم بثقافة الموت وما يستتبعه من انكسار واستغراق فى الحزن والضعف ومتوالية القيام والسقوط اللانهائية، وبين التعليم بلاهوت الحياة وما يبنيه من دعامات النصرة والفرح عَبرَ الوعى بلاهوت التجسد، الذى تضخه كتابات الآباء وتحييه حركة التكريس المعاصرة، نستطيع أن نتبين خلفيات صراعات فرقاء اليوم. والتى تأتى محملة بموروث مجتمعى ثقيل يتبنى “واحدية” التفكير ويذهب بالتنوع والتعدد إلى مربع التحريم والتجريم، لذلك تجده ينتصر للمنولوج لا الديالوج.
ويأتى اجتماع مجمع اساقفة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية الأخير (مايو 2018) محملاً بإشارات ايجابية تؤكد أن الكنيسة تسير باتجاه اعادة بناء التواصل المنشود، بهدوء لكن بقوة، ببطء لكن للأمام، فقد استعادت مبدأ تداول المسئولية بخطوة رائدة من الأنبا رافائيل الأسقف العام بالإمتناع عن ترشيح نفسه كسكرتير عام للمجمع لدورة ثانية، وانتخاب الأنبا دانيال لهذا الموقع بأغلبية 98 صوتاً فى مقابل امتناع صوتين واعتراض نحو ثمانية أصوات، كانت الكتلة الرمادية هى المرجحة، فى دلالة ذات معنى.
وتأتى تشكيلات اللجان المجمعية، بحسب المعلن، لتؤكد أن حراكاً جديداً يخطو خطوات ايجابية رغم الضجيج الذى اجتاح العالم الإفتراضى فى محاولة بائسة ويائسة للترويج بأن ثمة أزمات قد تفكك أوصال الكنيسة تدور فى اروقة المجمع. وهو ترويج هاله أن نختبر الحوار والإختلاف.
جاءت التوصيات التى وافق عليها اباء المجمع وكلمة قداسة البابا فى جلسته العامة الختامية محملة برسائل واضحة ليس فقط للآباء اعضاء المجمع لكنها تتجاوزهم إلى جموع الأقباط وفى مقدمتهم القائمين على الخدمة فى الشارع والقرية والنجع والمدينة، الأباء الكهنة والإخوة الشمانسة والخدام وحتى مجالس الكنائس.
لعل التوصيتان اللافتتان “عقد لقاء محبة يضم جميع بطاركة الكنائس الارثوذكسية من العائلتين فى كنيسة الاسكندرية”، لعله ينتهى إلى تأسيس آليه حوار لاهوتى فاعلة تُفعِّل دورة التقارب الأرثوذكسى وتفضى إلى وحدة المفاهيم وتسوية صراعات امتدت لقرون، وتفرح قلب الرب يسوع وتحقق صرخته الى اطلقها فى ذاك البستان ومازالت تحمل اصدائها قلوب الخلصاء من أبناء الكنيسة
“وَلَسْتُ أَسْأَلُ مِنْ أَجْلِ هؤُلاَءِ فَقَطْ، بَلْ أَيْضًا مِنْ أَجْلِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِي بِكَلاَمِهِمْ، لِيَكُونَ الْجَمِيعُ وَاحِدًا، كَمَا أَنَّكَ أَنْتَ أَيُّهَا الآبُ فِيَّ وَأَنَا فِيكَ، لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضًا وَاحِدًا فِينَا، لِيُؤْمِنَ الْعَالَمُ أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي. وَأَنَا قَدْ أَعْطَيْتُهُمُ الْمَجْدَ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي، لِيَكُونُوا وَاحِدًا كَمَا أَنَّنَا نَحْنُ وَاحِدٌ. أَنَا فِيهِمْ وَأَنْتَ فِيَّ لِيَكُونُوا مُكَمَّلِينَ إِلَى وَاحِدٍ، وَلِيَعْلَمَ الْعَالَمُ أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي، وَأَحْبَبْتَهُمْ كَمَا أَحْبَبْتَنِي.” (يوحنا 17 : 20 ـ 23).
أما التوصية الثانية فكانت “تشكيل لجنة مكونة من 5 أعضاء من المجمع المقدس لدراسة و مراجعة الأخطاء التعليمية التى تصدر من بعض المعلمين الكنسيين”، فى تأكيد مجمعى على أن آلية الحوار الجاد والمباشر هى الضمانة الأولى لتنقية الفضاء الكنسى من الشوائب وقطع الطريق على احترابات المصالح الضيقة، والإرتفاع باطروحاتنا الى ما يليق بكنيسة عتيدة وعريقة وسوية.
أما كلمة البابا تواضروس فقد خمسة محاور لسنا بصدد تحليلها فى سياق طرحنا هذا، فقط نشير إلى عناوينها، ونتوقف أمام طرحه لـ”مأسسة الكنيسة”.
فقد تناول :
• الأبوة، والتشديد على اعتمادها منهجاً فى التعامل مع رعية الكنيسة .
• سلام الكنيسة، وأن يكون ذلك هدفا في جميع القرارات والتعاملات .
• التواجد الإعلامي، وضوابطه ومحاذيره، لما للميديا من دور هام في نشر الحقيقة .
• المسئولية المجتمعية، والمشاركة دائما في العمل العام
• الكيان المؤسسي، فالكنيسة لا تقوم على فرد بل على تكامل اعضاء الجسد الواحد كل فيما كلف به، فأى عمل يعتمد على شخص واحد لا يستمر ولا ينمو ولا يتطور ويموت العمل بنهاية الشخص، وأي شخص يأتي بعده يبدأ من الأول، وهذا معطل للنمو والتطور.
:::::::::::::::::::::::::::::::::::::::
فالتحول من الفرد إلى المؤسسة فى مجتمعاتنا “الأبوية” عملية شاقة وتحتاج إلى قدر كبير من المثابرة والإستنارة والملء، خاصة عندما تضفى هذه المجتمعات صبغة القداسة على شخوصها، فتتحصن بها فى مواجهة المراجعة والتقييم، وحتى مجرد التحاور، ويزداد الأمر تعقيداً عندما يترسخ هذا المفهوم فى ذهنية كل الأطراف، من القاعدة إلى قمة الهرم، يسوُّق له ويرسخه التعليم الغيبى، وتدعمه مخاوف سيكلوجية الأقلية، فى مجال عام يحتله التربص فعل الإقصاء والإستهداف. ولا نتحدث عن ما استقر فى آليات التكوين من عيوب تشكل ذهنية عديد ممن احتلوا الصفوف المتقدمة، حولت عندهم السلطان البنائى إلى تسلط إختلالى.
التحول من الفرد إلى المؤسسة يبدأ باعادة هيكلة الإدارة الكنسية بجملتها، وفق معايير موضوعية وقواعد “عامة ومجردة وملزمة”، فتعرف تلك المؤسسات نسق المراكمة ومن ثم النمو الطبيعى ومواكبة متطلبات العصر فى التزام بالأطر الحاكمة للكيان الكلى “الكنيسة”، فلا يغيب عنها الهدف الذى تأسست من أجله وحُمِّلت به “اذهبوا .. اكرزوا .. اعلنوا بشارة الحياة والفرح .. أنسنوا العالم”.
وكنيستنا القبطية الأرثوذكسية الآن لديها ثلاث آليات تكون منظومة متكاملة فى دائرة التنوير؛ المركز الثقافى، المركز الإعلامى، اسقفية الشباب، ودوائر عملهم تصب فى بناء الوعى القبطى الجمعى، وهذه الآليات رغم وجود خطوط تماس وتكامل بين أهدافها، إلا أنها تعمل كجزر منعزلة، وربما متضاربة، وتدار وفق قاعدة التقدير الشخصى، ويرتبط نجاحها واخفاقها برؤية القائم أو القائمين عليها، لذلك أرى تشكيل لجنة عليا أو مجلس أعلى يجمعهم معاً ويضع رؤية متكاملة للأهداف والآليات وطرق العمل بها، يتبعه مجلس أمناء ـ تطوعى ـ من المختصين كل فى مجاله، يضع هيكل تنظيمى يتولاه خبراء مهنيين، على أن يراعى تداول المسئولية بحيث لا يبقى المسئول عن هذه اللجنة أو المجلس أكثر من اربع سنوات، حتى لا يتحول الى “مركز قوة” يختطفه لحسابه، وكذلك الأمر بالنسبة لكل آلية من تلك الآليات الثلاث.
اللافت لمن يطالع موقع المركز الثقافى، أن من بين أهدافه ما لا يدخل فى اختصاصه
ـ (يوفر المركز الثقافي القبطي الأرثوذكسي المؤازرة للفقراء، المرضى، المعاقين ومن لهم احتياجات مختلفة) !!.
ـ (تقديم الخدمات الإنسانية.) !!
ـ (كما يقدم المركز العديد من الخدمات السياحية بالتعاون مع شركة كريسمار للسياحة.) !!
وهى وإن كانت تحمل فى بعضها معان انسانية، تتحول فى بعضها إلى عمل تجارى استثمارى، وتقع كلها خارج تخصص ودور الفعل الثقافى.
ويملك المركز امكانات لوجستية كبيرة لكنها غير موظفة فى تحقيق دوره ومهمته الثقافية :
ـ قناة مي سات الفضائية (قناة مارمرقس الفضائية المصرية) التى تبث فى مصر وعلى مستوى العالم.
ـ أكاديمية سى أو سى سى،
ـ أكاديمية مي سات للاعلام،
ـ مكتب إنتاج فني وإعلامي،
ـ ستوديو مي للصوت،
ـ برنامج أتحبنى،
ـ مكتبة مارمرقس العامة.
ـ قاعة مؤتمرات مزودة بأحدث الأجهزة السمعية والبصرية والترجمة الفورية.
ـ المتحف البطريركى والبانوراما القبطية.
ويصدر المركز نشرة إخبارية يومية.
ويتردد أن للمجمع المقدس دور كامل بمبنى المركز الثقافى، لكنه مغلق دونه، ولا يستطيع أن يستخدمه فى اجتماعاته العامة أو اجتماعات لجانه النوعية، فلو كان هذا صحيحاً نكون أمام أزمة حقيقية مسكوت عنها.
وعلى ذكر القناة الفضائية يطرح سؤال عن طبيعة العلاقة بين هذه القناة ومثيلاتها (مى سات، واغابى، وسى تى فى)، وبين الكنيسة، طبيعة ملكيتها، وشخوص المالكين، خاصة فيما يتردد عن كونها ملكية خاصة لبعض الأشخاص ومنهم أعضاء بمجمع الكنيسة، وبعضهم كهنة، فهل هذا صحيح؟، وهل هذا يعنى أن علاقة الكنيسة بها علاقة أدبية؟، دون أن يكون لها دور ملزم فى رسم سياساتها وتحديد مساراتها؟
أما المركز الإعلامى فرغم أنه حلقة الوصل بين الكنيسة وبين رعيتها من جانب، وبينها وبين العالم خارجها من جانب آخر، إلا انه يفتقر للحيوية والديناميكية والمهنية ايضاً، وأصابه ما اصاب الإعلام الحكومى من رتابة فى تغطية الأحداث الكنسية والقبطية، بما يفتح الباب لبدائل غير أمينة تسعى لبلبلة الشارع القبطى والمصرى، تحتل العالم الإفتراضى بتنويعاته.
لذا فالمركز الإعلامى وهو يملك كوادر فاعلة من الشباب، وحصلت ادارته على دورات تدريبية مهنية متخصصة، يحتاج إلى وضع معايير مهنية وصلاحيات اكثر اتساعاً تحرره من القيود والتوازنات، لكسب مصداقية لدى المتلقين. باداء مهنى اكاديمى متطور.
أما اسقفية الشباب فتحتاج الى مراجعة خاصة فيما يتعلق بمنظومة (المهرجانات) الاسلوب والهدف والتطبيقات والقائمين عليها ومطابقتها مع رسالة الكنيسة واهدافها. خاصة وأنها استطاعت بفعل اسقفها الجليل أن تمد خدمتها إلى قطاعات عريضة من الشباب بامتداد الكرازة، لكنها بفعل نظرية الأوانى المستطرقة اصابها ما اصاب الفعل الثقافى العام والكنسى من ترهل وتراجع وتشكلت داخلها مراكز معوقة بفعل طول فترة اسناد المسئولية لها، ولعلها تطبق مبدأ تداول المسئولية الذى اعتمده مجمع الكنيسة فى تشكيل لجانه النوعية.
التنسيق والتكامل بين هذه الآليات الثلاث هو الباب الرئيس لترجمة الإنتقال من الفرد إلى المؤسسة والإنطلاق لتحرير الكنيسة من أسر الرؤى الشخصية، إلى فعل العمل الجماعى فى ترجمة لمعنى الجسد الواحد.
وأمامنا تجارب فى كنائس شقيقة نطرحها فى هذا السياق فى مقالات قادمة.

التعليقات

أخبار ذات صلة

صفحتنا على فيسبوك

آخر التغريدات