التاريخ بيعور…والجغرافيا أيضا !

انتشرت في الأيام الأخيرة حالة من تندر المؤرخين والمثقفين المصريين على سيدة تقدم قناة يوتيوب تخرف وتخرب في التاريخ المصري.

يبدو الأمر غريبا حقا، فإذا كانت مقدمة القناة على اليوتيوب تخرف في التاريخ والأدب، فلماذا لا تمنعها الدولة من تقديم ذلك؟

وإذا كان ذلك صعبا في ظل ثقافة حرية السوق والعرض والطلب والاستهلاك لماذا لا يخرج المؤرخون والجغرافيون ويقولون التاريخ الحقيقي والجغرافيا الصحيحة؟

الإجابة واضحة جدا، ولكني سأصيغها في قالب حكاية قصيرة.

في عام 2010 شاركت في مؤتمر في شمال إيطاليا، كان المؤتمر يضم عددا وافرا من الباحثين من مختلف الأعمار، ومن بينهم شيوخ في سن التقاعد، وشباب تخرج من الجامعة للتو.أحد الشباب المتحمس ارتدى قميصا مكتوب عليه بالإنجليزية “العِلم لا يجرح!” وهي عبارة شاعت في التسعينيات بصيغة أخرى كانت تقول “الإحصاءات لا تجرح”.

وتعود القصة إلى ستينيات القرن العشرين حين كانت بعض العلوم الإنسانية، ومن بينها الجغرافيا، غارقة في الوصف الأدبي وبعيدة عن القيم الرقمية والإحصائية، وهنا تصدى عدد من الباحثين للتوكيد على ضرورة الاعتماد على التحليلات الكمية والإحصائية والمعادلات الرياضية حتى تكون الجغرافيا “علما” لا “أدبا”.

وإذا ترجمنا العبارة إلى اللغة الشعبية ستكون “التحليل الإحصائي ما بيعورش..لا تخف منه …مد ايدك مش هايحصل حاجة ! “.

الآن نعود إلى الفتيات والشباب الذين يقدمون تاريخ مصر وجغرافيته في نسخ من التسلية والترفيه المغلوط، ونعيد السؤال: لماذا لا يتصدى المؤرخون والجغرافيون لقنوات اليوتيوب ويخاطبوا الملايين من الشباب المتعطش لمعرفة التاريخ وجغرافية بلاده؟من وجهة نظري، تتألف الإجابة من عشر نقاط، ولكن لأنكم تحبون الاختصار سأعرض اثنتين منها فقط:

يذهب البعض إلى القول بأن الجمهور الحالي من مستهلكي السوشيال ميديا ممن يرغبون في “هات م الآخر” و”انجز” و”فين الزتونة؟” هو جمهور ابن الإبهار الفاقع أكثر منه ابن الحقيقة العارية، وهو أيضا قد لا يكون معنيا بالتاريخ الحقيقي، وربما لا يثق أصلا في أن هناك تاريخ حقيقي، بل يريد الحكايات المسلية على لسان الفتيات الحسناوات.

وهو نفس ما أشرت إليه في مقال سابق عن تقديم الفتيات الناهدات الفاتنات لنشرات الأخبار وصور القتل والدمار في أوكرانيا ومعارك أفريقيا وعليك أن تأرجح عينيك بينهن وبين أخبار الدماء والخراب فلا تخرج إلا بإبهار من ألوان مزركشة مبرقشة، مشتت لا بوصلة لديك، دون حس إنساني أو تواجد مع قضايا البشر حول العالم:

مجرد استهلاك وتسليع وتسلية.

أن المؤرخين والجغرافيين إذا خاطبوا الملايين لن يخاطبوهم في التاريخ المسلي المبهرج بل عليهم واجب قول التاريخ الحقيقي والجغرافيا الحقيقية وهذا سيسبب “جرحا” كبيرا، هذا الجرح سيدميهم بالمعنى الاصطلاحي أو “هيعورهم” بالمعنى الشعبوي لأنهم سيكونون في مخاطر لا يقدرون عليها.

وفي أقل الخسائر وإن لم يصبهم جرح فسيتعرضون للحرمان من الجوائز والوظائف وفرص القرب والرضا من الدولة.

وبناء على كل ما سبق، يؤسفني أن أخبركم انه إذا ما استمرت الأمور على ما هي عليه، فستواصل قنوات اليوتيوب المبهرجة تقدم التاريخ المزيف والجغرافيا التسلوية (من التسلية) وذلك لأن التاريخ الحقيقي والجغرافيا الحقيقية تحتاج إلى أجواء أخرى تتاح فيها الفرصة للأفكار والعقول لتناقش وتفكر وتثمر دون خوف من أي جرح

أو “تعاوير

نقلا عن الأهرام الكندية

التعليقات

أخبار ذات صلة

صفحتنا على فيسبوك

آخر التغريدات