المسرح في ليبيا.. بين “باكس رُومانا” و”باكس عُربانا”

عرفت ليبيا المسرح لأول مرة في تاريخها تحت السلطة الرومانية في الفترة الممتدة من 27 قبل الميلاد حتى 180 ميلادية، وهي الفترة التي شهدت فيها الامبراطورية الرومانية سلامًا وازدهارًا اقتصاديًا وفنيا غير مسبوق في جميع أنحاء الإمبراطورية، التي امتدت من إنجلترا شمالا إلى ليبيا جنوبا. وبسبب هذه الظاهرة الخارقة، أطلق على الامبراطورية باللاتينية لقب “Pax Romana” أو “باكس رومانا” الذي يعني حرفيًا “السلام الروماني”.

مثل العديد من المدن الرومانية في شتى أنحاء الامبراطورية بما في ذلك روما نفسها، شيَّد الرومان مسرحين عظيمين في كل من لبدة الكبرى وصبراتة. ووفقًا للنقش الذي نجا، تم تمويل عملية بناء المسرح في لبدة الكبرى من قبل أحد سكان المدنية المحليين يُدعى Annobal Tapapius Rufus، الذي بنى بالفعل سوق المدينة، Macellum قبلها بأعوام قليلة.  يشير النقش إلى أن بدايات عملية البناء تمت في عهد الامبراطور أوغسطس في السنة الثامنة قبل الميلاد، وأن الثري الليبي حنابعل أو آنوبعل بنى هذا المسرح من ماله الخاص.  يحمل هذا التصريح دلالات مهمة، من بينها اهتمام رجال الأعمال الليبيين بهذا الفن الراقي إلى درجة التبرع بالمال طوعيا، بعيدا عن استجداء السلطات الحاكمة والحكومات المتعاقبة. كما يؤكد أيضا على أن للمسرح جمهورا محليا أيضا لا يستهان به، ما يدل على شغف عام من السكان المحليين بالثقافة والفن والمتعة والفرجة.

أما مسرح صبراتة في غرب البلاد فقد شُيِّد في عهد الإمبراطور ماركوس أوريليوس، واستمر تطويره من قبل ابنه كومودوس وانتهى بمعمار فخم من قبل الإمبراطور سيبتيموس سيفيروس. يحتوي المسرح على 25 مدخلًا ويتسع لما بين 5200 و 6450 متفرجًا، وقد أعاد الإيطاليون ترميم المسرح على يد علماء الآثار في الثلاثينيات من القرن الماضي. أما لبدة الكبرى التي يعد مسرحها أقدم مسرح في إفريقية الرومانية فيسع مدرجاتها نحو 15 ألف متفرج.

بالنسبة إلى الرومان، تعني كلمة مسرح اللاتينية theatrum الاحتفالات البهيجة، تتقدمها الأعمال المسرحية المدرجة في الألعاب العامة، التي يتم إجراؤها على شرف الآلهة. إذن ثمة علاقة قوية بين ديانتهم الوثنية والمسرح. تأسست هذه العلاقة الحميمة على مبدأ فلسفي وثني هو السعادة، الذي هو امتداد للمدارس الفلسفية الوثنية اليونانية، التي تعتبر قورينا أهم وأكبر مدارسها قاطبة. لذلك كان المسرح مكانًا عامًا للتمثيل والدعاية والفرح والبهجة والقوة. بالطبع تخللت هذه الأعمال سباقات الخيل والمصارعة والعدو. تم استخدام الهندسة المعمارية الضخمة ذات المناظر الخلابة، حيث لم يترك أي شيء للصدفة، فضلاً عن العروض الدرامية. كانت هذه التحفة المعمارية نتيجة لعملية تطورية، نشأت بادئ الأمر في اليونان، ثم اجتاح النموذج المعماري اليوناني روما، وتم تنفيذ أول مسرح فيها عُرف بمسرح بومبي، الذي شيد عام 55 قبل الميلاد.

ينعم الليبيون الآن في ليبيا بعطلة عيدين دينيين طوال العام كله، إلى جانب أعياد الميلود ورأس السنة الهجرية . ولو أضفنا أعيادا أخرى مثل عيد العمال وفبراير، ستكون محصلة الأعياد من خمسة إلى ستة أعياد على الأكثر. لكن قبل 2000 عام، كان الليبيون ينعمون كما قراناؤهم في مدن حوض المتوسط بنحو 177 يوم عطلة وعيد خلال السنة، إذ كانت تقاويمهم الرومانية الوثنية مزدحمة بالمهرجانات والأعياد والفيشطة والعطل الخاصة. كانت معظم هذه الاحتفالات والفيشطات ذات قاعدة دينية في الأساس، تعبيرا عن الشكر والانتصار والنعمة. السباكون أو السكليستيا، على سبيل المثال، لم يكن لديهم “يوم سباكين”. كرمت عطلتهم إلههم الراعي – زُحل، الذي كان رمزه الرصاص. كانت معظم أنابيب الصرف الصحي التي تربط سكان لبدة الكبرى بإمداداتهم الفخمة من المياه النظيفة مصنوعة من الرصاص. يحتفل أصحاب الوظائف كل بعيد إلهه، بالإضافة إلى معظم الأعياد الوطنية. حتى العبيد كانوا يحصلون على إجازة لمهرجانهم في أغسطس. وبما أننا في شهر مايو أو شهر الماء حسب تسمية الأخ القايد، فقد كان أحد الأعياد الكبيرة، الذي يتم الاحتفال به في 15 مايو، هو عيد عطارد – إله التجار والخطباء والرياضيين المحترفين والمسافرين. كان عطارد إله التجارة والنجاح التجاري والفكرة اللذيذة والربح. خلال ال Mercuralia، يقوم التجار الليبيون بالحج إلى بئره في روما، حيث كانوا يرشون أنفسهم وبضائعهم بالماء، وهو تقليد اعتقدوا أنه سيعزز أرباحهم النهائية. ومازال تجار المعدنوس في ليبيا يقومون بهذه العادة إلى يومنا هذا. أما الألعاب والمهرجانات الكبرى التي تعرف باسم ” Ludi” كانت تمول في كثير من الأحيان من قبل الأفراد الأثرياء، وهي كثيرة جدا، ففي شهر مايو “ Maius” مثلا، لا يقل عن تسعة مهرجانات كبرى “يربخ” فيها الليبيون “تربيخا”.

في كل التاريخ البشري، يحتاج كل شعب أو أمة أو حضارة كبرى إلى “سردية خرافية تأسيسية” تصفف وتؤثث عليها “وَهْم” أهميتها في الكون؛ كي تخلد شعوبها إلى النوم. وبما أن روما الوثنية ليس لها كتاب مقدس ” scripture”، كالتوراة والإنجيل والقرآن، يقوم بوظيفة صناعة تصورات “Perceptions” “الخلود إلى النوم”، اخترع اليونانيون وتلاهم الرومان خشبات المسرح باعتباره “الكتاب المقدس” أو “Scripture”، الذي تُقام فيه وتُعرض عليه “سردية الأمة الكبرى” من أعمال مسرحية تراجيدية وكوميدية، إلى جانب طقوس التقرب إلى الآلهة، إذ تحظى الآلهة بنصيب وافر من القربى والتعبد والحب. في التقاليد المتعددة الآلهة مثل تلك الموجودة في اليونان القديمة ولاحقا في روما، ثمة فهم خاص للصواب والخطأ، حيث يصعب معرفة من يمكننا إلقاء اللوم عليه لوجود خطأ أو أي شر معين في العالم. لذا كان من السهل حل مشكلة الشر؛ لأنه بوجود أكثر من إله واحد، لم يكن ممكنا لأي منهم أن يكون كلي القدرة والعلم والخير. علاوة على ذلك، فإن القيود المفروضة على الآلهة تشجع المؤمنين على التفكير بها من منظور إنساني، لذلك فإن الآلهة، مثل البشر، تتخذ قرارات أخلاقية تمامًا كما يفعل البشر، تصيب وتخطي. ونظرًا لأن الآلهة بها نقاط ضعف، حتى الإله الصالح يمكن أن يتفوق عليه واحد شرير، فالخير والشر في هذا العالم الروماني نتاج اختيارات يقوم بها الآلهة والبشر معا. بناء على هذا المفهوم، كان للسعادة مكانة خاصة لدى الرومان، خلقتها ووفرتها وسمحت بها أنظمة تعدد الآلهة. ومن هنا، يمكن تبرير ازدهار المسرح والمهرجانات في عهود الامبراطورية الرومانية؛ لأنه بالأساس تجسيد لفكرة تعدد الآلهة، التي لا يحتاج فيها البشر إلى التعصب إلى صنم واحد، حيث كان السبيل إلى الحياة المشتركة وإلى التعايش المشترك أمرا محتملا وممكنا طالما لا وجود للتعصب. لكل مدينة وقرية إله ومعبود، ينشد الروماني سعادته كل يوم، بل كل لحظة، وعندما خُلِعَ على لبدة الكبرى وصبراتة صفة “المواطنة” أي صارت مجتمعات مواطنية “مدينية” بالمعنى اليوناني للكلمة، بلغت الثقافة والفن شأوا لم تبلغها ليبيا في كل عهودها الغابرة واللاحقة. ومن المعروف أن لازدهار الثقافة والفن سببا آخر أصيلا هو الرخاء الاقتصادي. أجل، في تلكم الأثناء، صارت لبدة الكبرى على سبيل المثال، ومعها الشريط الساحلي الممتد إلى صبراتة غربا، من أكثر مصدري زيت الزيتون في روما الامبراطورية، إذ اعتبرت ليبيا الرومانيةحقا سلة غذاء روما. وليس هذا فحسب، فقد كان نبيذ “سيلين” القرية القريبة من لبدة من أجود أنواع النبيذ في المتوسط كله.

إذن، إذا حالفك حسن الحظ، أيها الليبي اليوم، وعشت قبل ألفي عام في لبدة الكبرى، فيما عُرف بعهد “باكس رومانا” المجيد، فسوف يكون جدول أعمالك السنوي مليئا بالأعمال الفنية والمسرحيات الكبرى، حتى أنك ستحتار أين ستقضي عطلات ومهرجانات العام المزدحمة، وعلى أي المسرحيات والسباقات  ستتفرج وتلهى وتفيشط.

يبدأ أصل كل شيء في فكر الإنسان وعقله من التصورات الثقافية، والتصورات الثقافية مثلها مثل العمليات الاجتماعية الأخرى، لا تظهر فجأة، ولكنها تستغرق وقتًا لتتطور وتنضج. إن انهيار المسرح وتردي الثقافة في ليبيا هو جزء من عملية اجتماعية وثقافية متعددة الطبقات، خلقت وصنعت عبر الزمن تصورات ثقافية “وهمية” خاصة حول الفن والمسرح والفرح والخير والشر في المجتمع الليبي. ومن خلال تطبيق نموذج هوفستد Hofstede للبصل، يمكننا أن نرى أن العداء الشديد للمسرح والفن والنحت والغناء  والحياة هو مجرد الطبقات الخارجية، التي يمكن ملاحظتها من خلال سلوكيات وعقائد ومواقف الليبيين. تحت هذه الطبقات يكمن الجوهر الذي يمثل العوامل الثقافية، التي أثرت في تصورات المجتمع وشكلت وجهات نظره حول الحياة والعالم وأسلوب العيش فيه.

فبعد ظهور ما يُسمى بالسرديات “التوحيدية”، بدأت السرديات الرومانية الوثنية في التراجع. الظروف السياسية الصعبة التي عاشها اليهود، من تدمير مملكتهم في العالم القديم من قبل دول أخرى، جعلتهم يبتكرون فكرة الشر والمعاناة في العالم، التي استنسخها الميسيحون ثم المسلمون لاحقا. إذا تعرض العبرانيون للهزيمة في المعركة، فلا يمكن تفسير الهزيمة من خلال التفكير في أن الرومان انتصروا نتيجة لطاعتهم لآلهتهم. ولأنه لم يكن متاحا بأن يؤمن اليهود بأن هناك آلهة أخرى، إنما هو إله واحد لكل البشر، وجد العبرانيون فكرة التخلي عن يهوه غير مستساغة، كان لدى العبرانيين الكثير من الفرص للوصول إلى هذا الاستنتاج؛ لأن التاريخ السياسي للعبرانيين القدماء كان تاريخًا كارثيًا. لذا كانت العلاقة مع يهوه علاقة بلا خيارات. إذا انتصر الرومان على العبرانيين، فلا بد أن يكونوا هم الأداة التي اختارها الرب لمعاقبة العبرانيين على تجاوزهم المشين. أدرك العبرانيون حينها أن الحل سهلاً للغاية. لأنه في بعض الأحيان يعاني الأبرياء والأشرار على حد سواء ويحرمون من العيش الكريم. كان الحل السحري هو أن المعاناة بمثابة اختبار للإخلاص ليهوه، وأن أولئك الذين اجتازوا هذا الاختبار سيكافأون لاحقا في الآخرة بدلا من الدنيا.

جاء النبي محمد، وقبله أنبياء بني إسرائيل، بسردية أخرى هي سردية “الخلاص”. لم يكن لدى الرومان أنبياء، لأنه لو ظهر فيهم أنبياء لمات النشيد والمسرح والغناء والشعر والفن. وكما يقول إميل سيوران “منذ ألفي عام والمسيح ينتقم منا؛ لأنه لم يمت على أريكة”. وبحكم أنه لا وجود لمفهوم السعادة في الأديان التوحيدية، فإن أول ما قام به الآباء الأوائل عندما أصبحت الديانة المسيحية الديانة الرسمية للامبراطورية الرومانية في القرن الرابع الميلادي، هو إدانة المتفرجين للعروض المسرحية والسيرك والمهرجانات. كان في مقدمة هؤلاء القس أوغسطينوس، عندما أشار إلى الأصول الوثنية اليونانية للألعاب المسرحية، وما فيها من تخنث يعارض الطبيعة الرومانية الرجولية.

إذن، حلَّ “الكتاب المقدس” محل خشبات المسرح، إذ صار للناس الآن سردية مكتوبة مقدسة ومنمقة ومزخرفة، باستطاعتها طمأنتهم ودفعهم للخلود إلى النوم كل ليلة. من هنا اهتم القرآن بقص القصص، وقال في سورة يوسف “نحن نقص عليك أحسن القصص” الآية 3.  في الوقت نفسه، ذمَّ القرآنُ الأساطيرَ وشتم الآلهة واستهجن فكرة تعددها، مؤسسا لسردية الواحد الأحد. وبما أن  هذه السردية التأسيسية الكبرى هي أحد أهم المفاهيم التي تلعب دورًا أساسيًا في إنشاء وتشكيل وصناعة نظام العلاقات والفهم والإدراك والحكم في المجتمعات البشرية، فإن التحكم في إنتاج التصورات عبر “أسطورة متخيلة مقدسة ومهذبة” أمر أساسي في المجتمع. فوفقًا لـ “النظرية التمثيلية للإدراك” representative theory of perception فنحن نرى الأشياء مباشرة من خلال تمثيلها في التجربة المرئية، حيث يرى الناس العالم ويفسرونه من خلال التجربة الإدراكية، التي يتم بناؤها وتثبيتها بواسطة المعتقدات والإيمان والعادات والثقافة.

عند خروج العرب من الجزيرة العربية في القرن السابع الميلادي، عبروا في طريقهم على مسارح روما الكبرى بداية من بصرى الشام إلى لبدة الكبرى وصبراتة وقرطاج. لم تكن تثير في خلدهم أكثر من مجرد منازل أولئك الذين ظلموا أنفسهم.  لكن ليبيا حتما كانت ستختلف كما قال إميل سيوران، لو نجح آدم في حبه لحواء.

التعليقات

أخبار ذات صلة

صفحتنا على فيسبوك

آخر التغريدات