كمال زاخر يكتب الكنيسة … صراع أم مخاض ميلاد؟

الكنيسة … صراع أم مخاض ميلاد؟
::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::
20 ـ البابا تواضروس الثانى … طموحات ومتاريس
::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::
لم يكن الأمر ربيعاً لا فى عام 2011 ولا فى عام 2012، بل كان رياحاً خماسينية عاصفة، ففى الأولى تجمعت إرادات الغضب على تباينها، لتنفجر فى غير اتجاه، وكانت السلطة قد شاخت على مقاعدها بحسب التعبير الذى نحته الكاتب المخضرم “محمد حسنين هيكل”، فجاء سقوطه سريعاً، كان حراك 25 يناير 2011 العاصف بداية لخريف ممتد، شكلته سياسات سبقته عملت على تجريف الفضاءات السياسية والقيمية المصرية، سياسات رسمتها تحالفات مازالت غامضة محلية وإقليمية وعالمية، ومصالح لم نعرف تفاصيل تصالحها بعد.
وعلى الرغم من أن مارس هو شهر الربيع بحسب الأعراف المناخية النظرية السائدة، إلا أنه جاء عام 2012 ليؤكد ما ذهب إليه الفعل المناخى فى مصر، الذى لا يعرف تقويمه المصرى القديم رباعية الفصول، بل ثلاثيتها والتى إحتفظت بها أواشى القداس القبطى بين مواسم الفيضان والزرع والأهوية، فقد حمل عاصفة نبأ رحيل قداسة البابا شنودة الثالث، بعد أن صار أحد معالم يومنا القبطى والكنسى، وقد أمسك بدفة تشكيل الذهنية القبطية منفرداً بامتداد نصف قرن من الزمان، عشر سنوات أسقفاً للتعليم وأربعون سنة بطريركاً، يأتى رحيله بين عواصف السياسة ومعطيات سنوات الشيخوخة، ليطلق العنان لصراعات كانت تمور بها أروقة الكنيسة تحت السطح، ربما يقترب المشهد من التعبير الذى وصف به القديس بولس حاله وقت أزمة كنيسة كورنثوس ” كنا مكتئبين في كل شيء: من خارج خصومات، من داخل مخاوف”. (رسالة بولس الرسول الثانية إلى كنيسة كورنثوس فصل 7 عدد 5).
بحسب الترتيب الكنسى يذهب موقع القائمقام إلى اقدم مطارنة الكنيسة، الأنبا ميخائيل، مطران اسيوط، لكنه يرده إلى مجمع الكنيسة معتذراً، ربما لتقدمه فى العمر وربما لموقفه المبدئى الذى لم يحد عنه بامتداد حبرية البابا المتنيح، بالإبتعاد عن تشابكات المشهد الكنسى بجملته، لأسباب لم يشأ أن يعلنها، إلا لدائرة صغيرة استراح إليها كنت واحداً منها، فيذهب الموقع إلى الأنبا باخوميوس مطران البحيرة، باكورة رسامات قداسة البابا شنودة الثالث، فيجمع بين الحرف الأول فى حبريته البابوية والحرف الأخير فيها. ويحسب له عدم انخراطه فى صراعات ما قبل رحيل البابا أو انحيازه لتيار بعينه داخل الكنيسة، لذلك تم اختياره قبلاً عضواً فى مجلس الكنائس العالمى ومجلس كنائس الشرق الأوسط.
وكم اتمنى أن يسجل المطران الجليل مشواره فى مذكرات يتركها للكنيسة والوطن، كما فعل اسقف البحث العلمى الأنبا غريغوريوس، وكما فعل الأب متى المسكين. فعنده؛ شاباً وسكرتيراً للجنة العليا لمدارس الأحد وراهباً وأسقفا وقائمقام، ما يسهم بموضوعية فى تفكيك وإماطة اللثام وتفسير الكثير من احداث وملابسات مرحلة من أدق مراحل الكنيسة المعاصرة.
استطاع هذا الرجل فى ثمانية أشهر، ما بين رحيل قداسة البابا شنودة الثالث وقدوم قداسة البابا تواضروس الثانى، أن يعبر بسفينة الكنيسة بسلام، بين أمواج عاتية ومتلاطمة وعنيفة كادت تقتلعها وتفكك أوصالها، من الخارج ومن الداخل، فقد جاء والمجلس العسكرى يدير دفة البلاد، ويشهد قفز جماعة الإخوان المسلمين على السلطة، وسعيهم الحثيث لتغيير وجه الوطن واقتياده إلى حلم الخلافة الأثير، وتصاعد وتيرة استهداف الأقباط، وتبنى تلك الجماعة للمغالبة بدلاً من المشاركة، وترجمة توجههم فى إعلان دستورى يحصن قرارات الرئيس ويغل يد القضاء عن مراقبته، ثم وثيقة دستورهم ولجنة الخمسين التى كلفت بإعداده والتى اشتركت الكنائس المصرية فيها، فيدعو المجلس الملى للإجتماع ويقرر بحسم “سحب ممثلى الكنيسة من اللجنة التأسيسية للدستور، وعدم مشاركة الأقباط فى اللجنة بناء على نبض الشارع المصرى، والقبطى خاصة” بحسب البيان الصادر عن المجلس برئاسة القائمقام. ليعقبه انسحاب بقية الكنائس وتؤسس لغضبة شعبية عارمة.
كان الحس القبطى يتوجس من خريطة الترشيحات لخلافة البابا الراحل، فقد احتشدت بكثيرين متباينى التوجهات، وتشهد ساحات الفضاء الإلكترونى ملاسنات يحركها بعضهم عبر كتائبهم الإلكترونية والتى استحضرت الصراعات بنكهة سياسات العالم الثالث إلى محراب الكنيسة، وتشهد الكنيسة فى جانب قصى تضرعات من جموع قبطية، غير مؤدلجة، أن يرى الرب يسوع الجموع ويتحنن عليهم “اذ كانوا منزعجين ومنطرحين كغنم لا راعي لها.” (متى 9 : 36).
يبدو أن التضرعات وجدت طريقها إلى السماء، فقد توالت انسحابات عدد من المرشحين بغير تفسير معلن أو مبررات واضحة، ربما تكشف عنها الأيام حين تذهب سطوتهم، لكن اللافت أن أهمها جاء بعد اجتماع القائمقام بأصحابها إجتماعاً مغلقاً ومطولاً، لم يرفع الغطاء بعد عن ما دار فيه، خرج اطرافه وقد لفهم الصمت، ليعقبه إعلان انسحاب أكثرهم إثارة للجدل، ذهب خيال البعض إلى استحضار ذلك المشهد الكتابى حين تقدمت قيادات مجتمع المسيح، حال تجسده، إليه طالبين حكمه على إمرأة أمسكت فى فعل الخطيئة متلبسة، ومعهم شهود عليها، ينحنى السيد ليكتب بضع كلمات على الأرض، دون أن يفصح الراوى عنها، فيبادرون بالإنسحاب، لم تكتمل اركان الإتهام بانسحاب الشهود، فتكون البراءة من نصيب المرأة، ماذا كتب القائمقام فى أوراق اللقاء؟!.
وتتأكد متلازمة “الكنيسة ـ الدولة” مجدداً فبينما الدولة تعبر مرحلة غائمة (انتقالية بقدر) تعبر معها الكنيسة أيضاً نفس المرحلة، بحنكة وتدبير محكم، وينتهى الأمر فيهما إلى مرحلة جديدة بوجوه جديدة، لم تكن مطروحة فى صراعات السطح فى كليهما.
يأتى البابا تواضروس الثانى محملاً بطموحات، ربما شكلتها خبرة من يتابع المشهد من بعيد وعن كثب فى موقع الرجل الثانى، فى ايبارشية نائية، لم يشتبك فى صراعات المرحلة، ويملك ذهنية علمية بحكم الدراسة فى كلية الصيدلة وعبر دراساته العليا فى علوم الإدارة، بانجلترا، وتلمذته على أحد اساطين الإدارة منذ نعومة اظفاره وحتى تعيينه أسقفاً عاماً، مساعداً له، وطبيعته المسالمة ونشأته فى بيئة أسرية سوية، وتشهد السنوات الأولى لحبريته خطوات مرتبة فى مأسسة الكنيسة، بصدور العديد من اللوائح المنظمة للكيانات الكنسية المحورية، الأسقف والكاهن والشمامسة ومجالس الكنائس، ولائحة مجمع الأساقفة، فى محاولة للإنتقال بالإدارة من الفرد إلى المؤسسة، ويقيم حوارات جادة مع اطياف من اصحاب التوجهات المختلفة، ويعالج ملف المستبعدين، من الإكليروس والعلمانيين، بهدوء لم يكن الإعلام طرفاً حاضراً فيه، استمراراً للقواعد التى ارساها الأنبا باخوميوس فى شهوره الثمانية. لكنه لم ينتبه إلى تجميع حبات السبحة، لتشكل ظهيراً داعماً لتوجه “الإحياء الآبائى”، فكاد مناوئيه أن ينفردوا به.
كان المنسحبون يعيدون ترتيب اوراقهم المبعثرة، ويبدو أنهم “تركوه إلى حين”، فقد بدأوا حملتهم الممنهجة باطلاق قنابل دخان المقارنة بينه وبين البابا الراحل، وهم يدركون أن الصورة الذهنية الجمعية ستنحاز بالضرورة لقداسة البابا المتنيح الأنبا شنودة، هكذا الحال دائماً مع الشخصيات التاريخية وفى ثقافات مجتمعاتنا، وكان العصب الملتهب الذى يجيدون الضغط عليه، الترويج لخشيتهم على العقيدة والطقوس وما وجدنا عليه آباؤنا، كان حقاً يراد به باطل، ولم تكن خبرات البابا قد اكتملت، فيتوقف عن مسار التحديث فى تراجع تكتيكى، خشية أن تتشتت الرعية التى اُستُلب ذهنها الآبائى بموجات متصحرة أحلت التعليم الغيبى المدغدغ لمشاعر المتلقين وأزماتهم فى المجتمع العام، محل تسليم الآباء، ويجوبون الكتب والمحاضرات عند التيار التنويرى، ينقبون عن جملة يقتطعونها من سياقها ليهدموا “الإحياء الآبائى”.
وتتصاعد وتيرة الكتائب الإلكترونية ضد سلام الكنيسة ووحدتها، قبيل انعقاد المجمع المقدس فى جلسته العادية السنوية المواكبة لعيد العنصرة (مايو 2018)، لكن مشورتهم تلحق بمصير مشورة اخيتوفل، ويعبر المجمع بالكنيسة فوق الأزمة المصطنعة، وتأتى توصياته، واختياراته، لحساب التنوير، إذ يعيد الأنبا رافائيل، سكرتير عام المجمع فى دورته المنقضية، الإعتبار لمبدأ تداول المسئولية، وهى لو تعلمون ثقيلة، ليختار المجمع الأنبا دانيال اسقف المعادى سكرتيراً عاماً خلفاً له، ويشكل من الأنبا غبريال أسقف بني سويف. والأنبا جابرييل أسقف النمسا.(انتخاباً) والأنبا يوليوس أسقف عام كناس مصر القديمة،(تعييناً) لجنة سكرتارية المجمع.
ويصدر المجمع توصيات لها دلالتها، وفقاً للبيان الذى اعلنه المتحدث الإعلامى للكنيسة :
1. اقترح قداسة البابا تواضروس عقد لقاء محبة يضم جميع بطاركة الكنائس الأرثوذكسية من العائلتين في كنيسة الأسكندرية وقد رحب المجمع المقدس بهذه الفكرة الرائدة وتم تشكيل لجنة من الآباء المطارنة والأساقفة لمتابعة تنفيذ هذا الاقتراح.
2. تشكيل لجنة مكونة من 5 أعضاء من المجمع المقدس لدراسة ومراجعة الأخطاء التعليمية التي تصدر من بعض المعلمين الكنسيين.
ويناشد المجمع المقدس، الكلام مازال وفقاً للبيان، جموع الشعب القبطي عدم الانسياق وراء ما تبثه بعض المواقع المشبوهة والكاذبة والتي تحمل بكل أسف أسماءً مسيحية، وتروج أخبارًا ملفقة وتجتزئ الحقائق وتسئ للتقاليد الراسخة في كنيستنا المجيدة وتشوه صورتها في أعين أبنائها.
:::::::::::::::::::::::::::::::::::
إنتهت جولة من جولات المواجهة بين الفرقاء، لكنها فى ظنى لن تكون الأخيرة، فالكنيسة بحاجة فى سياق المأسسة، بحسب التعبير الذى نحته قداسة البابا فى كلمته فى الإجتماع العام للمجمع، إلى عدة خطوات ايجابية على الأرض منها :
ـ كسر الحاجز الذى إقيم فى مواجهة العلمانيين، بامتداد عقود، وإعادة الإعتبار لدورهم البنائى فى تدبير الكنيسة، وفق تقليدها المتميز، فى إعادة لبناء الثقة بينهم وبين الإكليروس، ضمن تكامل الجسد الواحد، وقد أقر المجمع استحداث لجنة دائمة تضاف إلى لجان المجمع، فلماذا لا يدرس المجمع إضافة لجنة للأراخنة، تترجم هذا التكامل، وتحققه، وتمثل اضافة له، وتذيب جدار العزلة بين العلمانيين والإكليروس تنظيمياً.
ـ إعادة النظر فى مفهوم الأسقف العام ورده إلى صحيحه بحسب ما قصده البابا كيرلس السادس وما أكده البابا شنودة الثالث، فهما لم يقيما اسقفاً عاماً بغير كيان اسقفى، بل أسسا اسقفيات عامة ثم أقاما عليها اساقفة لتدبيرها، فأنشا البابا كيرلس اسقفيات التعليم والخدمة الإجتماعية والبحث العلمى ثم اقام عليها الأنبا صموئيل والأنبا شنودة (1962)، والأنبا غريغوريوس (1967)، اساقفة كل فى تخصص الأسقفية، وهكذا فعل البابا شنودة حين أنشأ اسقفية الشباب ثم أقام عليها الأنبا موسى أسقفاً (1980)، وهو ما قال به البابا شنودة فى دفاعه عن موقفه فى شأن تنازع الإختصاص وتمسكه بأن التعليم اسقفية وليس مجرد مهمة طارئة مسندة إليه. فهو اسقف لأسقفية، وهو الأمر الذى يعالج ما نتج عن التطبيقات اللاحقة التى أخلت بالترتيب الهيراركى فى الكنيسة، ونزعت الطمأنينة والإستقرار عن الأسقف العام الذى يبقى مرتهنا بموقف البابا منه، فضلاً عن أنها جارت على رتبة الإيغومانوس كما سبق وبينا.
ـ إضافة لجنة للإعلام والثقافة تضم المركز الإعلامى والمركز الثقافى والفضائيات الكنسية المختلفة، تعالج التشتت وتضارب المواقف، وتضع سياسة واضحة تستند إلى رؤية كنسية جماعية تعبر عن توجه المجمع ككيان كنسى وليس كأشخاص.
:::::::::::::::::::::::
ومازال للطرح بقية

التعليقات

أخبار ذات صلة

صفحتنا على فيسبوك

آخر التغريدات