فاطمة ناعوت تكتب يا غُصنَ نقا مكلّلاً بالذهب

 

 

لم يعبأ بتحذيرات الأطباء بعدم الخروج من المستشفى، ووجوب الخضوع الفوري لجلسات الغسيل الكلوي. تحدّى الإعياء والخوار، وتحامل على جسده النحيل، متوكِّئًا على ذراع كريمته وذراعي، يجاهدُ الخُطواتِ العسيرة، من أجل لقاء من الصعب التضحية به، مع قداسة البابا تواضروس الثاني. وهل يُضحَّى بمثل هذا اللقاء؟!
السبت ٢٩ يونيو، وصالوني الشهري، الذي استضافه قداسةُ البابا في المقرّ البابوي، لأنه يناقشُ: “قيمة الوطن”. غالبَ الإعياءَ وحكى لجمهور الصالون إن والده كان يصطحبه وهو صبيٌّ إلى مسجد بالغورية، لصلاة الفجر. يجلس الصبي “سمير”، يتأمل مصر في عهدها الذهبي. يدخل المسجدَ راهبٌ صليبُه مُدلّى جوار قلبه. يبحثُ عن صديقه الشيخ، فيجده يَؤمُّ المصلّين. يجلسُ الراهبُ في ركن المسجد، يُقلّب في أوراقه، ريثما ينتهي صديقُه من الصلاة. يتصافح الصديقان، ثم يخرجان معًا لمساعدة عائلات فقيرة بالحيّ. عائلة مسلمة تحتاج بعضَ المال لتزويج الابنة، وعائلة مسيحية تحتاج بعض المال لإكمال تعليم الابن. تلك كانت مصرُ، حين كانت القلوب نظيفة من الأدران. يتهدّجُ صوتُ “سمير الإسكندراني”، وتتعثّر الكلماتُ على أوتار الحنجرة التي صدحت بكل لغات العالم في حبّ مصر. ألتفتُّ إلى البابا معتذرةً: (قداسة البابا، الأستاذ سمير مريض جدًّا، لكنه أصرَّ على المجيء من أجلك. صلِّ من أجله!) فينهضُ البابا، ويضعُ يده الطيبةَ فوق رأس العليل، ويتمتمُ: “ربّنا يمدّ يد الشفاء.”
يا قداسة البابا المعظّم، أكتبُ هذا المقال لأخبركَ أن اللهَ سمع صوتَك، وأنصتَ إلى صلاة قلبك. بعد ساعة سأكون في طريقي لمستشفى “عين شمس التخصّصي”، لأصطحبَ الأستاذ “سمير الإسكندراني” إلى بيته، بعد نجاح عملية جراحية دقيقة الأسبوع الماضي. كان المتصوّفُ العليلُ مُحِقًّا حين تمرّدَ على أوامر الأطباء، وتحدّى شراسةَ المرض، وشقَّ على نحوله وخوار قواه ليأتي إليكَ يا قداسة البابا. حدسُه أخبره أن في لقائك بركةً لأنكَ الأبُ الذي تحبُّ مصرَ وتحبُّ المصريين. لأنك وطنيٌّ، يا قداسة البابا، فأنت تعرفُ قيمةَ وطنيٍّ بحجم سمير الإسكندراني، الذي لقّن الموسادَ الإسرائيلي درسًا قاسيًا في إشراقة شبابه، فمنحه الزعيمُ جمال عبد الناصر لقب “ثعلب المخابرات المصرية”. الفنّانُ المصريّ العالميّ ابن الغورية الذي صدحَ صوتُه بقلوب جنودنا في جميع معاركنا، وفي ثورات تحرّرنا من أعداء مصر وأعداء الحياة. الوطنيون يعرفون قيمة الوطنيين. والعظماءُ يعرفون قدرَ العظماء.
قبل ثلاثة شهور، في اجتماع فريق عملي بالأب الروحي للصالون، سمير الإسكندراني، كنّا نفكّر في (صالون يونيو). قررنا أن يكون موضوع ذلك الشهر هو: (قيمة الوطن). لأن يونيو، يبدأ بحدث تاريخي عظيم، وينتهي بحدث تاريخي عظيم. في غُرّته، دخلت العائلةُ المقدسة أرضَ مصرَ، فباركت كلَّ بقعة فيها. وفي نهايته أشعل المصريون ثورتهم الشريفة، ليطّهروا أرضَ مصر من دنس الإخوان. قبل ألفي عام، دخلت العذراءُ البتولُ أرضنَا الطيبة حاملةً فوق ذراعها طفلَها القدسيَّ، كلمةَ الله، الذي سيغدو مع الأيام رسول السلام يجول يصنع خيرًا. وقبل سنواتٍ ستٍّ، انتشر جيشُنا العظيمُ ليحمي ظهرَ المصريين في ثورتهم ضدَّ لصوص الأوطان. اتفقنا على “الوطن”، وتبقّى أن نختار ضيفَ شرف بحجم “الوطن”. تلاقت عيناي مع عيني سمير الاسكندراني، وابتسمنا. كأنما يقرأ أفكاري، وأقرأ أفكاره. هتفنا في صوت واحد: “قداسة البابا تواضروس”! هو الذي قال: “وطنٌ بلا كنائسَ، خيرٌ من كنائسَ بلا وطن.” هو الذي قابل رؤوساء العالم وكبار الرموز، رافعًا اسم مصر في أعلى العلا. (مصرُ تحمي أبناءها الأقباطَ، فاستريحوا. وتوقّفوا عن دسّ أنوفكم في شؤون بلادنا.) حكمتُه ووطنيته جنَّبت مصرَ عقوباتٍ دوليةً، ومنعت تدخّل الغرب في شؤون بلادنا؛ لئلا يضيعُ الوطنُ، مثلما ضاعت أوطانٌ من حولنا. وفي مصر، علّم أبناءه الأقباط المسيحيين، كيف يُحبّون أشقاءهم الأقباطَ المسلمين، وكيف يُحوّلون المحنَ الطائفية التي يصنعها أعداءُ الوطن، إلى فرصة لتضامّ الأشقاء المصريين معًا، مسلمين ومسيحيين ضد عدوّ واحد هو الإرهاب. الكنائسُ بيوتُ الله تحميها المساجدُ. ورنيُن الجرس يتناغمُ مع صوت المؤذن في أنشودة إيمانية تصعدُ إلى الإله الواحد، لكي يباركَ هذا البلد الأمين، الذي أمَّنَه قرآنُنا: (ادخلوا مصرَ إن شاءَ اللهُ آمنين)، وباركه إنجيلُنا: (مباركٌ شعبي مصر.)
“سمير الإسكندراني”، أيقونةُ هذا الوطن، (يا غصنَ نقا مكلّلاً بالذهب/ أفديكَ من الرَّدى بأمّي وأبي)، حمدلله على السلامة يا حبيبي وحبيب مصر.
كلّ الشكر للدكتور “محمود المتيني”، عميد كلية الطب جامعة عين شمس، الذي أمر بعلاج الفنان الكبير فورًا، دون بيروقراطية الإجراءات، فأنقذه من تفاقم المرض. وكل الشكر للصديق لواء طيار/ “قدري الزهيري”، الذي أوصل “سمير الإسكندراني” للدكتور المتيني. وشكرًا لنقابة المهن الموسيقية التي ستُكملُ المشوار. وطوبى لمصرَ التي لا تنسى فرسانَها. و“الدينُ لله، والوطنُ لمن يحبُّ الوطن.”
*
 

 

التعليقات

أخبار ذات صلة

صفحتنا على فيسبوك

آخر التغريدات