فاطمة ناعوت تكتب مهرجانُ الجونة … رسالةُ مصرَ للعالم

مهرجان الجونة السينمائي ٢٠٢٠، لم يكن، هذا العام تحديدًا، مهرجانًا سينمائيًا مُهمًّا ينتظره العالمُ وحسب، بل كان “احتفالًا بالإنسان” حين يكون قويًّا قادرًا على هزيمة المِحَن وصناعة الجمال والفرح في أحلك اللحظات الكونية. كان المهرجانُ، الذي اختتم فعالياته قبل يومين في مدينة الجونة الساحرة، رسالةَ احتفال بالحياة، وإصرارًا جادًّا لانتزاع إشراقةَ نور من ظلال جائحة عالمية أظلمتْ معظمَ مهرجانات العالم ومؤتمراته، وشتّتت الجموع وكرّست العزلة والنفور والشعور بالعدمية. قدّم المهرجان الراقي رسالةً مصرية تقول للعالم إن الفنَّ بوسعه أن ينتصرَ على الإقصاء والانعزالية والعنصرية والطائفية والتنمّر وغيرها من الأدران التي تقتلُ الإنسانَ وتُهدِّدُ الحضارة. وخرج المهرجانُ في دورته الرابعة، كما هو دائمًا: نموذجًا يُدرّس للجمالِ والنظافة والدقّة وحسن الإدارة والتنظيم.
مقالي العام الماضي عن المهرجان، كان بعنوان: “مهرجان الجونة، الرقصُ داخلُ الأغلال”، وهو مبدأ صينيٌّ قديم Dancing within Chains يطرحُ فرضيةَ الإبداع والتحليق، بينما الأغلالُ تُطوّقُ الجسد. واستخدمه الفيلسوفُ نيتشه ليعبّر عن انطلاق الإبداع حتى مُنتهاه، في ظلّ ظرف قاس لا يسمحُ بذلك. وأمّا الظرفُ القاسي الذي قصدتُه آنذاك، فكان الإرهاب الأسود الذي يُلوّحُ به الإخوان الدمويون، منذ أسقطناهم في ثورة ٣٠ يونيو النبيلة. فكان تحدّيًا إقامةُ مهرجان يستضيفُ وفودًا من كلّ أنحاء العالم في لحظة عسرة تمرّ بمصر وهي تذودُ عنها أصابعَ الشرّ والحقد من كلّ صوب. ولم أكن أعلمُ وقتَها، أن لحظةً أشرسَ قادمةً تنتظرُ العالمَ بأسره، تكافحُ فيها الإنسايةُ فيروسًا ضئيلاً حصدَ من الأرواح ما لم تحصده حروبٌ عالمية. أسدلت السُّترُ في معظم المحافل الدولية، لكن مهرجان الجونة أضاءَ مشاعلَه في ظل احتياطات احترازية بالغة الدقّة حدّ الكمال، ليخرجَ للنور في كامل بهائه، فلا تنقطعُ العادةُ الطيبة، وتُرسلُ مصرُ رسالتَها العظيمة للعالم. إن مصرَ، مع تحديات نهوضها ومعاركها مع كورونا والإرهاب ومحاولات الهدم من الداخل والخارج؛ لم تُسدِل ستارَ مسرح، ولا أطفأتْ شاشاتِ سينما، ولا توقفت حناجرُ عن الشدو، ولا شَغُرت دارُ أوبرا، ولا كفَّت عصا مايسترو عن إطلاق النغم. تلك معجزةُ مصرَ الساحرةُ في هدوئها وصخبها، حروبها وسِلمها، استقرارها وعصفِها، تقفُ على صخرة الإبداع منذ آلاف السنين؛ تحميها من الانكسار والهوان.
أصرَّ المهرجانُ على استئناف رسالته الطيبة في تنشيط السياحة الخارجية والداخلية ووضع اسمها على خارطة الإبداع والحياة، ليكرّس حقيقةَ أن مصرَ بلدٌ آمنٌ يحميه جيشٌ عظيم، وإدراة سياسية واعية وشعبٌ يحبُّ الحياة والفنون الراقية.
رفعَ المهرجانُ شعارَ “سينما من أجل الإنسانية”. وتلك رسالةٌ أخرى قدمتها مصرُ للعالم. واستضاف المهرجان أكثر من ستين فيلمًا، من أكثر من أربعين دولة ضمن مسابقات وبرامج فنية وفكرية متنوّعة. وفاز فيلم (الرجل الذي باع ظهره) للمخرجة التونسية “كوثر بن هنية” بجائزة “نجمة الجونة لأفضل فيلم عربي”. ويقدّم الفيلمُ معالجةً درامية معكوسة لأسطورة “بجماليون”؛ التي تحكي عن نحّات صنع تمثالا من الرخام ثم سقط في عشقه فحاول أن ينفخ فيه الروح ليجعله إنسانًا يحيا ويتنفس. فاستلهم الفيلمُ من مأساة الشعب السوري الراهنة حكاية رمزية عن لاجئ سوريّ حوّلته السياسةُ وتجارة المال إلى تمثال جامد لا حياة فيه، يجوبُ قاعات العرض والمزادات ليُباع كما تُباعُ التحفُ.
مبروك للأفلام الفائزة والنجوم الذين كرّمهم المهرجانُ احترامًا لمسيراتهم الفنية. وشكرًا للمهرجان الذي يقدّم باسم مصرَ واحدًا من أهم الفعاليات السينمائية والفنية في العالم. شكرًا للمهندس الفنان “سميح ساويرس” لإصراره على إقامة المهرجان في موعده السنوي في ظل ظرف عسر يعيشه العالم. شكرًا لوزارة الصحة المصرية التي دعمت المهرجان وأمّنته صحيًّا بتكثيف الإجراءات الاحترازية لمنع انتشار الفيروس، فأتمَّ المهرجانُ فعالياته بأمان دون إصابة واحدة ولله الحمد. شكرًا للناقد المبدع “انتشال التميمي” وإدراة المهرجان على تنظيم المهرجان على هذا النحو الفائق كما تعوّدنا. شكرًا للشباب والصبايا الجميلات الذين انتشروا كخلايا نحل نشطة بين الفنادق وقاعات عرض الأفلام ومنصّات الندوات وقاعات الجاليرات الفنية والسجادة الحمراء ليخرج المهرجانُ على هذا النحو المنظم الأنيق. شكرًا لجميع من ساهم في إنجاح المهرجان المصري العالمي الباهر والعقبى لتحتفل مصرُ بيوبيله البرونزي والفضي والذهبي والماسي في مقبل الأعوام. شكرًا لمعجزة “الجونة” الآسرة التي تقدّم لنا نموذجًا لمدينة اختفت منها جميع الشوائب المجتمعية، حيث لا قمامة ولا مخالفات مروElgouna Film Festivalة ولا سرقة ولا تنمّر. وشكرًا لكل نبيل في هذا العالم يبني حجرًا في صرح الإنسانية والحضارة. “الدينُ لله، والوطنُ لمن يُعلي اسمَ الوطن”.

التعليقات

أخبار ذات صلة

صفحتنا على فيسبوك

آخر التغريدات