فلسفة الحياة عصية على الفهم!

هناك مشكلة يعاني منها الجيل الأول من المهاجرين تتمثل في حَمْله جزءًا من هموم الأهل في الوطن الذي غادره دون أن يغدر به، وهاجر منه دون أن يهجره، ورحل عنه دون أن يترجل عنه!الرعيل الأول يفكر في الاثنين معا: الوطن الأم والوطن المضيف، وقد تتغلب الأولى فيسري حزن غريب في النفس، خاصة الأمراض والتقدم في العُمر لمن تركناهم في صحة الخيول فلم تنهض أجسادهم وهي واقفة كالأشجار، لكنها تميل مع كل نسمة رياح ضعيفة.

وقد تتغلب الثانية فيأتي جيل ثم جيل ثان، ونبتعد رويدا.. رويدا، فيصبح الهاتف أو البريد الالكتروني بكلماته المرتعشة هو صلة الوصل التي تنقطع فور انقطاع الخط أو قراءة الرسالة.

أحيانا لا يعرف المهاجر من الذي يشفق على الآخر: الطائر الطليق أم الهاديء المستكين!يأتيك الصوت من الداخل كأنه حشرجة حبيب يحتضر، وأحيانا كأنه يقرع ضميرك أنك هاجرت، فنسيت، فبهتت مشاعرُك؛ ولم تشارك أفراحــا حقيقية أو وهمية.

تهاجر وتأخذ معك الدين قبل أن تضع عليه بصمات إنسانية مشرقة؛ فكأنك لم تغادر مقعدك من أمام المنبر في المسجد أو الكنيسة.

تهاجر وتأخذ معك أفكار الاستبداد فتحاول زرعها في بيئة ديمقراطية فتنبت نباتا ميتاً قبل أن تسقيه.

هذا مريض بالهجرة، وذاك سقيم بعدم الهجرة؛ فكيف تلتقي أفكارهما؟في المهجر تحاول رتق علاقات ماضوية مع الأصدقاء والأحباب والأهل في الوطن الأم، لكنك تصنع صورة من نسج خيالك.

وفي الوطن الأم تحاول تفهم ظروف وأفكار ومشاعر وذكريات من غادرك؛ فتصل إلى أنه غدر بك واختار مكانا آخر، وقبرا بعيدا، وملك الموت يأتيه على مبعدة آلاف الأميال، وأجيالا من صُلبه لا تعرف عنها غير أسمائها.

عشرات الملايين من المهاجرين في الدنيا بأسرها يجد أكثرهم في هذا البوست المرآة التي يشاهدون فيها أنفسهم؛ لكنهم لا ينتبهون إلى أن المرآة مقعرة أو محدبة أو مهشمة.السعادة هنا وهناك، والتعاسة هنا وهناك ؛ وتبقى فلسفة الحياة، الحلوة والمُرّة، عصية على الفهم.

محمد عبد المجيد طائر الشمال

تحرير نقلا عن الأهرام الكندية

التعليقات

أخبار ذات صلة

صفحتنا على فيسبوك

آخر التغريدات