كمال زاخر يكتب قراءة في إشكاليات الكنيسة والاقباط والسياسة

1 ـ الكنيسة .. صراع أم مخاض ميلاد؟
كمال زاخر
ـ ما قبل الأزمة :
شهدت ساحات التراشق الإلكترونى وبعض من “الميديا” مواجهات فكرية تدور حول الشئون الإيمانية المسيحية فى باحة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية تحديداً، الأمر الذى أزعج وأقلق الكثيرين من المتابعين، خاصة وأنها تدور بين متقدمين فى الكنيسة، لهم ثقلهم وتقديرهم ولا نملك أن نشكك فى حسن نواياهم وحرصهم على سلامة الإيمان وسلامة الكنيسة.
على أن الأمر لا يمكن تناوله بعيداً عن السياق العام والمناخ السائد والمتغيرات التى نعيشها والتى تؤثر بشكل فاعل على المشهد بجملته، فى اطار الفكر، ولا يمكن إغفال ما جاءت به ثورة الإتصالات ومن ثم المعلومات، وخروجها عن السيطرة أو الحجب أو التوجيه. والتى تستدعى المزيد من القراءة المتبصرة والتحليل الموضوعى، والفحص الدقيق.
ولما كان الأمر متعلقاً بالكنيسة والشأن الإيمانى فلا يصح أن نستدعى أدوات التحليل السياسى فى تناوله، وعلينا أن ننتبه لمن يسعى لاختطاف المواجهات لتسوية حسابات عالقة، قديمة أو مستحدثة، فى احتراب سياسى لا محل له.
وقد نكون بحاجة إلى فهم المسار التاريخى للكنيسة، والتى تعد واحدة من الكنائس الخمس الكبرى (اورشليم، روما، الإسكندرية، انطاكية، ثم القسطنطينية) وكان لها باع طويل واسهامات لاهوتية فى توثيق وتقنين الإيمان المسيحى، والذى تبلور فى وثيقة “قانون الإيمان النيقاوى القسطنطينى”، عبر المجامع المسكونية فى قرون المسيحية الخمسة الأولى، حتى جاء الإنشقاق الكبير بعد مصادمات مجمع خلقيدونية (451م.)، وتداعياته المتلاحقة، لتشهد تحولاً ومصادمات من نوع مختلف، وصراعات محتدمة بينها وبين فرقاء العقيدة، ليأتى القرن السابع الذى يشهد الدخول العربى، لتجد نفسها إزاء مواجهات مختلفة، ومع القرن العاشر تتحول إلى “كنيسة أقلية”، وتجرى فى نهر الكنيسة والوطن مياه كثيرة، وتواجه الكنيسة فترات تراجع مريرة، وهى تنتقل من اليونانية الى القبطية إلى العربية (لساناً) ، ومع كل انتقال تسعى بجلد لإعادة بناء صرحها اللاهوتى باللغة الجديدة، وما يحتاجه هذا من سنوات ممتدة حتى تجيد النقل بادوات اللغة الجديدة، فى مناخات غير مواتية وعنيفة فى أحيان كثيرة.
كان سر بقاءها فى “ليتورجيتها” وهى منظومة عقائدها التى حفظتها فى ممارساتها التعبدية الحياتية، التى تعرف بـ “الطقوس الكنسية”، وتأتى “الإفخارستيا” فى مقدمتها، والتى تناقلتها حتى فى أزمنة الضعف، فى حرص وتدقيق، فطريين، ليشهد النصف الأخير من القرن التاسع عشر ارهاصات استعادة الوعى، خاصة مع قدوم البطريرك المستنير البابا كيرلس الرابع، الذى كان يملك رؤية واضحة، فاستقدم ثانى اكبر مطبعة فى مصر، بعد “المطبعة الأميرية” التى جاء بها الوالى محمد على، وشرع فى تأسيس سلسلة “مدارس الأقباط” المدنية، ويفتح ابوابها لكل المصريين، وليس فقط للأولاد بل وللبنات أيضاً ليسبق دعوة قاسم أمين بأكثر من ثلاثة عقود.
وتواجه الكنيسة قادماً من نوع جديد فى أعطاف الإحتلال الإنجليزى، فتؤسس منظومة مدارس الأحد مع بواكير القرن العشرين، وتحاول جاهدة برؤية مستقبلية أن تبنى ذهنية الجيل الجديد، على قواعد مسيحية ارثوذكسية، فى لحظة تشهد تكامل وتوافق الإكليروس (البابا البطريرك كيرلس الخامس) والعلمانيين (الأستاذ حبيب جرجس)، لكنها كانت تعانى من نقص المراجع الأرثوذكسية المعربة، فاستعانت، بجوار النزر اليسير المتوفر لديها، بالمتاح فى الكنائس الشقيقة، حتى تكتمل منظومة مراجعها، مع تأسيس حركة الترجمة، من اللغات الوسيطة، الإنجليزية تحديداً، بينها وبين اليونانية، وكان فارسها الأستاذ حافظ داوود، (القمص مرقس داوود فيما بعد)، وكان من ابرز ما ترجمه؛ كتاب تجسد الكلمة للقديس البابا اثناسيوس الرسولى، والدسقولية، لتأتى حركة التكريس مع منتصف القرن العشرين لتؤسس تيار الترجمة من اليونانية مباشرة، وتشهد الساحة الفكرية نقلة نوعية فاعلة وثرية، تضخ دماء جديدة فى منظومة الفكر القبطى الأرثوذكسى.
ـ جزء من الأزمة المعاشة يعود إلى التواجه بين مدرستين إحداهما اعتمدت فى منطلقاتها على المراجع المترجمة عن اللغات الحديثة، والأخرى تبنى رؤيتها على الكتب اليونانية، ويقف بينهما ما تعرفه علوم الترجمة من اختلافات دقيقة ومؤثرة، تحكمها بنية اللغة وادواتها ومصطلحاتها ومعانيها، وزاد من تعميق المواجهة دخول جناح ثالث اعتمد فى رؤيته على متشابهات تحملها مراجع غير ارثوذكسية.
ـ وجزء منها يعود إلى طبيعة المناخ الذهنى العربى الشعبوى السائد، وقد تسلل إلينا بحكم الثقافة واللغة والإحتكاك المعيشى، والذى يستثقل التعددية والتنوع، ويميل إلى “واحدية” الرأى، ويبنى تصوره أو قناعاته على كثير من الإنطباع وقليل من الدراسة والبحث، وتغيب عنه فى الغالب القواعد الموضوعية الحاكمة.
ـ وجزء ثالث منها هو الخلط بين العقيدة والرأى والتفسير، ولعله الأخطر، خاصة فى منظومة تقليدية هيراركية، تعانى من موروث ثقيل مازال عالقاً بأجوائنا، فى علاقة اصحاب الرأى بأصحاب القرار، ومازلنا نعيد انتاج تجاربنا السلبية فى هذا الأمر، على غرار ما حدث بين الباحث الموسوعى العلامة أوريجانوس، والبابا القديس ديمتريوس الكرام. وما حدث بين البطريرك العالم يوحنا ذهبى الفم والبطريرك البابا ثيئوفيلس، الذى حرمه وأوصى بنفيه، وقد نكون بحاجة والأمر كذلك إلى استكمال المشهد باستنساخ ما قام به البطريرك اللاحق له القديس كيرلس الكبير، والذى رد لذهبى الفم اعتباره، بعد وفاته فى منفاه، بل واعتمدته الكنيسة القبطية ضمن قائمة قديسيها ومعلميها الثقاة.
وقبل أن نعرض جوانب الأزمة التى تغشانا الآن نعود فنشير إلى المتغير الذى فرض نفسه، ولا يمكن إغفاله، وأسهم بقدر وافر فى تشكل الأزمة، وليس فى تفجرها فقط، وهو العالم الإفتراضى الذى انتجته الثورة الرقيمية، فمن خلاله توافرت مئات وربما آلاف الأبحاث والكتب، التراثية والحديثة، بل والدراسات النقدية التى تتناول الأمور الخلافية وتعيد فحص جذورها، بل وتعيد فحص اشكاليات عصر المجامع وتاريخ الإنشقاق، وتحتاج إلى تعامل جاد وموضوعى لا يتوقف عند تخوم الرفض والإدانة وربما التحريم، بل يتجاوز هذا ويعبر عليه دون التفات، لنجد انفسنا أمام وجوبية تأسيس مركز ابحاث اكاديمى يضم المتخصصين والباحثين عند أعلى نقطة فى الكنيسة، يعكف على وضع دستور يحدد ويقنن ويوثق :
ـ الإطار العقائدى للكنيسة ومصادره المعتمدة لديها.
ـ أبعاد وفلسفة الطقوس الكنسية وتحقيقها على المصادر الآبائية السليمة.
ـ توثيق القوانين الكنسية التى تقبلها الكنيسة.
ـ تقنين وتوثيق العلاقات البينية داخل الكنيسة.
ـ تقنين العلاقات (الكنسية ـ الكنسية) بين الكنيسة القبطية والكنائس والمذاهب المسيحية الأخرى.
ـ تحديد مسارات العلاقات مع الأديان الأخرى ومع المجتمع العام.
:::::::::::::::::::::::::::::::
لكن ماذا عن الأزمة القائمة الأن ، هذا ما سنعرضه فى المقال القادم.

التعليقات

أخبار ذات صلة

صفحتنا على فيسبوك

آخر التغريدات