هل كانت أم كلثوم من الأنبياء؟

الكلمات صناعة جديدة للهرم الرابع، ومجرى آخر للنيل، وتوسعة عصرية لوادي الملوك، وإثبات أن الله خلق الإنسان من طين وحبال صوتية .

الحروف عن أم كلثوم ذكريات وليست أطلالا، إحياء وليس حديثا عن موت، لمسة رقيقة لشعب يشعر كلما سمعها أنه يشم رائحة النغم الخالد.

سلوا قلبي فنحن أيضا نعيش بين ألفينة والأخرى ندندن في خلواتنا بروائعها، فلو هجرَتــْــنا ما هجرناها، ولو احتار دليلنا ما ظلت بعيدة عنا، وفي عصر النبوة ولد الهدى، وفي عصرنا أثبتت أم كلثوم أن الغناء معزوفات الملائكة، وأن مساء أول خميس من كل شهر كان يوم عيد للطيور والبلابل والمصريين والعرب!الأذن تعشق قبل العين والدليل، (غني لي وخُد عنيي) فالــَــمْغنى حياة الروح.

لو لم يكن هناك أطباء فأجزخانة الصوتيات تأتيك بما تحتاج إليه، فمريض الضغط يسمع ( انت عمري ) ومريض القلب تشفيه ( يا لية العيد آنستينا) و مريض الزهايمر تــُعينه ( لســه فاكر كان زمان ) و مريض الأرق تساعده ( رباعيات الخيام .. فما أطال النوم عمرا ولا قصَّر في الأعمار طول السهر ).

صندوق الذكريات المختبيء في أقصى ذاكرتك، إذا فتحته ستجد لكل مناسبة اسمــًـا، فقصة حبك الأولى هي ( ليلة حب ) وليست ( قصة الأمس )، وأول ابتسامة أنتشيت بها كانت ( من أجل عينيك)، وكل يأس ينتابك يلحقه ( الأمل ).كل التواريخ والأزمنة والأشخاص تتعرض للضعف والتراجع والاختفاء، إلا أم كلثوم فهي تلتصق بالذاكرة ولا تتركها قبل أن يلين القلب ويصنع منها نبضات أخرى.

كل وجه استرحت إليه ستجد أم كلثوم غنت له ولو بصوت خافت وخفيض.

كل نصر أو هزيمة وطنية تجد أم كلثوم وقد أمسكت بالجندي المصري والعربي لتسنده، وترفعه، وتساعده في رفع العــَــلــَــم، وتقول له ( طوف وشوف في جنة أرضنا ).كل يوم يمر تعيده أم الكواكب في ( أغداً ألقاك)، فهي بحق

( سيرة الحب ) لكل العرب في انتصاراتهم وهزائمهم.

أم كلثوم هي الوحدة العربية؛ فما وجدت عاشقا للنغم من المحيط إلى الخليج إلا كانت هي ملهمته وطبيبته تواسيه وتربت على كتفه و.. تعالج أوجاعه.

دخلتُ بيت الدكتورة رشا الصباح في الكويت، وكيلة وزارة التعليم العالي سابقا، فاستقبلتني أم كلثوم في( بعيد عنك حياتي عذاب، ما تبعدنيش بعيد عنك)، وركبت سيارة أجرة في طنجة المغربية فكاد السائق يتراقص في سيارته على صوت سيدة النغم ( وتغضب لما أقول لك يوم يا ظالمني)، وباغتني وكيل وزارة الإعلام لشؤون الإذاعة والتلفزيون في الدوحة القطرية، عبد الرحمن سيف المعضادي، بشريط كاسيت تتلو فيه أم كلثوم آيات قرآنية كأنها نزلت عليها في قرية طماي الزهايرة في السنبلاوين!رأيت وسمعت أم كلثوم في كل بيت عربي، ورأيت مصر تتعرب في آذان غير المصريين، ورأيت العرب يتمصرون بين أنامل السنباطي والقصبجي وبليغ والطويل وعبد الوهاب، وودت أن تكون لنا ذكرى مع فريد الأطرش وصوتها، لكن الزمن ليس كريما في كل الأوقات.

أم كلثوم، الوحدة العربية التي لا تنفصل بانقلاب عسكري أو ديني أو سياسي أو حزبي، فهي حبلُ الســـُــرّة في جسد كل عربي، بل هي الرباط المقدس الذي يربط الرباط بمسقط، والجزائر ببيروت، وأم درمان باللاذقية، ونواكشوط ببغداد، والكويت بسوسة والأصيل يلفها في حلة من الأضواء، والمنامة بغزة وعَمــَّــان بطبرق، وبورسعيد بالدوحة، والشارقة بمكناس…لو كنت مسؤولا لجعلت الدقائق الأولى في كل المدارس والفصول والجامعات من حق أم كلثوم لتتفتح المدارك على الجمال حتى تفرش للعلوم والآداب طريقا سوياً.

لو كنت مسؤولا لطلبت من كل مسلم ومسيحي قبل الدخول إلى المسجد والكنيسة أن يتوضأ وهو يستمع عدة دقائق لأم كلثوم حتى يعرف أن ( الله محبة ).

لو كنت مسؤولا لأجبرت كل عاشق أن يُلقي على مسامع محبوبته قصيدة أو أغنية قبل أن يتقدم لخطبتها، فخاتم الخطوبة في لسانه وأذنيها! لو كنت مسؤولا لحبست كل رجل دين أو شيخ أو داعية أو كاهنا أو قسيسا أو خطيب الجمعة في مكان معزول لا يسمع فيه إلا أم كلثوم حتى يلين، وتستقيم ضربات قلبه، وتتساقط دمعات دافئة من عينيه، ويكره الحديث عن الموت في مقابل حب الحياة، وحب الحب!رحمها الله رحمة واسعة

محمد عبد المجيد طائر الشمال

عضو اتحاد الصحفيين النرويجيين

تحرير نقلا عن الأهرام الكندية

التعليقات

أخبار ذات صلة

صفحتنا على فيسبوك

آخر التغريدات