صادق رؤوف عبيد يكتب عن ” التحريم و التجريم ” ما بين الشريعة و التشريع .

 

أرجو أن لا يتبادر لذهن البعض أن هذه المقالة هي بحث قانوني بالمعني التقليدي. بل هي مجرد سرد لخواطر و آراء قد تعود بالفائدة علينا جميعاً. وٍأتطرق فيها بهدوء اليمحاولة إجابة سؤالين هامين أصبحا ملحان في عالمنا الحاضر.

السؤال الأول: هل من العدل إلقاء مسؤولية عقوبة رجم الزانية علي الدين الحنيف؟

والسؤال الثاني: هل أبطل السيد المسيح شريعة الله أم إستشكل فقط في تنفيذها بيد البشر؟

وقد علمتني الأيام أن في تبادل الأراء بعيداً عن عن روح المجادلة والإختلاف كثيراً ما يكون خيراً. فبه ما تتآلف به القلوب حتي وإن لم تتفق الآراء. و لعلي أبدأها بحوار حقيقي حدث بيني و بين أحد الزملاء الأطباء الأفاضل (الذي تنتمي أصول أسرته لكيان مجاور)

أثناء عملنا بمستشفي السامري الصالح بمدينة فينكس بأريزونا. و هو طبيب و رئيس قسم أكبر مني في العمر و الخبرة هو بمثابة أستاذ لي و صديق. وبالرغم منه أنه كان يعلم أني ضابط سابق في القوات الجوية المصرية لم أري منه إلا حسن المعاملة وجزيل الإحترام.

وأنا أيضاً كنت وما زلت مؤمناً بضرورة أن يبقي موقفنا السياسي  واضحاً لا لبس أو “تطبيع” فيه .

إلا أني أري أن العلاقات الإنسانية لا فائدة فيها من تعالي طرف علي الآخر أو نشر الكراهية بدون وعيً أو ضمير.

و لعل في السيرة النبوية والسنة الشريفة  الكثير من المواقف التي تؤيد سياسة حسن التعامل مع أتباع سيدنا موسي عليه السلام.

فالشهادة لله حق اني قد رأيت في الكثيرين منهم في الغرب أيماناً عميقاً و فكرا ثاقباً  أكثر من الكثير من الأمريكيين الآخرين.

هذا مجرد رأي عن خبرات خاصة و ليس من باب التعميم. وكان هو أول من فتح معي موضوع “التجريم و التحريم” قائلاً : “عارف يا صادق حال أمريكا ديه مش هينصلح إلا لو المحكمة الدستورية العليا حكمت بما يرضي الله.” !

و طبعاً تأملت في قلبي متذكراً أن هذا هو بالضبط ما ينادي به أهلي السلفيين الكرام في أرض الكنانة.

و حتي لا يظن أحدٌ أني أرفض هذا الفكر تماماً أفكر الناس أنني علي هذه صفحة “مصر مهد المحبة” كنت أول من كتب  أني “أرثوذكسي سلفي.”

و قد تداول هذه التعبير من بعدي بعض معلقين الفضائيات المشاهير و لا عتاب لي عليهم في أنهم ذكروا القول وغفلوا أن يذكروا مصدره !

ولعل الأرثوذكسيون السلفيون الذين أنتمي أنا إليهم هم من أكثر الطوائف تشدداً علي وجه الأرض.

أقول هذا لا مدحاً و لا ذماً  و لكنها حقيقة وواقع .

واقعٌ لا يختلف عليه أي إنسان عادل إن كان منصفاً في دراسة التاريخ والأديان.

و لعل هذا يكون إحدي المداخل للدفاع عن أشقائنا السلفيين في الدين الحنيف.

فهم اليوم فريسة للتطاول من كل الأبواق الغربية بأنهم أول من نادي بقطع يد السارق أو رجم الزانية.

فأي ظلم وإفتراء يقع فيه الإعلام الغربي حين يلصق هذه التهمة بالدين الحنيف؟

ذلك الدين الذي ظهر في الجزيرة العربية بعد ستة قرون  من ميلاد المسيح.

و بعد أكثر من ألفي عام من إعلان سيدنا موسي عليه السلام لشرع الله.

شريعة موسي هي أول من نادي برجم الزانية. 

التوراة بين أيدينا تشهد علي صدق ما أقول. بل إن الإنجيل أيضاً يشهد علي أن السيد المسيح عليه السلام قدوافق علي شريعة موسي بل و أقر بصحتها.

تعالوا معاً لنراجع ما بين أيدينا جميعا من كتبٍ هي مقدسة عندنا ومكرمة عند أشقائنا المسلمين.

و لعل أكثر جملة سأستشهد بها هي قول السيد المسيح عن شريعة موسي {لم آت لأنقض بل لأكمل.}

وحاشا بالسيد المسيح أن يقول ما لا يعينه, أو أن يحكم بغير ما علّم الناس.

و أنا أعلم أن العالم كله اليوم يذكر حكمه علي المرأة التي أمسكت في فعل الزنا قائلاً: {من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر أولاً.} أدعو الجميع للهدوء و التروي في قراءة هذا الحكم وفهم دلالاته.

فهذا لم يكن شعاراً ثورياً للذكري أو التاريخ,, بل “حكماً قضائياً مكتمل الأركان”. حكم إدانة قاطعة ,, لا حكم تبرئة للمرأة المذنبة.

ولم يكن نقضاً لقانون موسي أو شريعة الله. ولعل من الواجب لكي نحكم بأنفسنا عن هذه الواقعة أن أسرد بالتفصيل  ما حدث في ذلك اليوم ,, منذ الفي عام, ذلك اليوم الفاصل في الضميرالإنساني.

اليوم الذي رواه معلمنا يوحنا الإنجيلي بشئ من التفصيل. فقد روي أن بعض أحبار اليهود أرادوا أن يجربوا السيد المسيح و يجعلوه يناقض شريعة موسي في حكمه أو يبطلها.

المحاولة هنا كانت لإدانة السيد المسيح نفسه بخطيئة الحكم بغير ما أنزل الله. فهو عليه السلام كان المستهدف. و أما المرأة الخاطئة فلم تكن تعني لأحبار اليهود القليل أو الكثير. و لما كانت شهادة الشهود وافية  كان علي السيد المسيح  إما أن يحامي عن المرأة بالباطل (والعياذ بالله ) أو أن يأمر برجمها.

و علي عكس ما يظن الكثيرون في يومنا هذا أن السيد المسيح قد حكم عليها بالبراءة.

بل الحقيقة هي أن السيد المسيح قد أمر بأنها فعلاً مستحقة الرجم . الحكم واضح و صريح. حكمٌ بالرجم لا رجعة فيه!إلا أنه وضع شرطاً بسيطاً لتنفيذ الحكم.

وضع ما يسمي اليوم في النظام القضائي المصري ” إشكالاً في التنفيذ”. والكثيرون من قراء صفحة “مصر مهد المحبة” هم من رجال القضاء الأفاضل ورجال الأمن و القانون. وجميعهم يدركون جيداً معني “الإستشكالات في تنفيذ الأحكام القضائية”.

و للتوضيح للقارئ غير المتخصص سأعطي مثلاً واحداً معاصراً لشرح هذه النقطة. مثل أن يحكم قاضٍ بإزالة الدور الثالث فقط

من عمارة ذات عشرة طوابق! وهنا يقدم المحامي إستشكالاً بإستحالة تنفيذ الحكم.

و عندها يتوقف التنفيذ. ومع ذلك يبقي الحكم صحيحاً. ويبقي التشريع الأصلي نفسه قائماً دون تبديل أو تغيير.

و يروي معلمنا يوحنا الإنجيلي أن السيد المسيح بعدما أصدر حكمه برجم المرأة إنحني علي الأرض و صار يكتب بعض الكلمات. واقعة وضحتها بعض الكتب السريانية القديمة (أنه كان يكتب خطايا الرجال الذين جاؤوا اليه بالمرأة المذنبة). وبعد أن فرغ السيد المسيح من الكتابة علي الأرض إنتصب وروي معلمنا يوحنا حرفياً: {ولم ينظر أحدا سوى المرأة ، قال لها : يا امرأة ، أين هم أولئك المشتكون عليك,, أما دانك أحد ؟} {فقالت لا أحد ، يا سيد } . فقال لها: {ولا أنا أدينك . اذهبي ولا تخطئي أيضاً}.

وأنا اليوم أتساءل صادقاً: أين في هذا من إبطال لعقوبة الرجم؟ بل إن السيد المسيح قد توسع في إعلان أن أجرة أي خطية هي الموت.

ففي الموعظة علي الجبل قال حرفياً: {قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لاَ تَقْتُلْ، وَمَنْ قَتَلَ يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْحُكْمِ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَغْضَبُ عَلَى أَخِيهِ بَاطِلاً يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْحُكْمِ، وَمَنْ قَالَ لأَخِيهِ: رَقَا، يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْمَجْمَعِ،  وَمَنْ قَالَ: يَا أَحْمَقُ، يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ نَارِ جَهَنَّمَ}.

بل توسع في تعريف مفهوم الزنا. فجعل من ينظر الي إمرأة ليشتهيها فقد زني بها في قلبه. و قد يتسائل البعض أين هي الرحمة إذن؟

و لعل الإجابة تكمن في قول سيدنا داود عليه السلام عنه حرفياً في الصلاة رقم 80 من كتاب المزامير. {“الرحمة والحق تلاقيا العدل والسلام تلائما”} و الحق أن السيد المسيح قد أّيّد شرعية شريعة الرجم بل زاد عليها من جرائم أخري تستوجب الموت.!

لكن الجديد هنا هو أنه بالرغم من أنه قد وافق علي إستحقاق المذنب للموت,,

أبطل أن يكون التنفيذ بيد الإنسان و ليس بيد الله. أو أن يكون توقيت تنفيذ الحكم في غير توقيت الله. أي بعد إنقضاء عمر الإنسان. إذا مات علي خطاياه دون توبة أو فداء. و هذا يعيدني الي ما بدأت منه. وهو الفرق بين التجريم و التحريم. فالمحاكم الأرضية يجب أن يقتصر دورها علي حماية الإنسان من أخيه الإنسان. المحاكم الأرضية يجب أن لا ننوط بها مهمة الفصل بين الحرام و الحلال.

فسيبقي الحرام حراماً ,, والحلال حلالاً,,, سواء شاءت المحاكم الدستورية العليا أم أبت. سواء في مصر أو أمريكا أو في أي مكان.

علينا نحن أن نُحَكّمَ ضمائرنا ,, كلٌ حسب ومذهبه وعقيدته وحسب وإيمانه و ضميره.

فالله سبحانه و تعالي حين خلق الناس حفر علي قلوبهم الحلال و الحرام. و ما أجمل القول الكريم: ﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا*فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا *قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا*وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾
نعم جميعنا نؤمن أن الله سبحانه و تعالي هو مصدر التحليل و التحريم. وهو وحده من ألهم النفس معرفة الحرام والحلال.

وأتمني صادقاً أن لا نضيع الوقت و لا الجهد في أن نهيب بالمحاكم الأرضية أن تلتزم بشرح شرع الله أو تفسيره. ما يعنينا هو أن نلتزم نحن بشرع الله في قلوبنا و عقائدنا و أعمالنا. و يكفي للمحاكم الجنائية أن تحمي الإنسان من شر أخيه الإنسان.

فالفرق كبير بأن لا تجرم المحاكم الحرام وبين أن تحلله. ما يؤرقني أكثر  هو أن نظن أن عدم تجريم الحرام قد جعل الحرام حلالاً والعياذ بالله.

و هذا ما يقع فيه الشباب من مختلف الأديان كثيراً في الغرب.

يشعرون أن الكثير من الموبقات قد سمحت بها المحكمة الأمريكية العليا, وبناء عليه فلا ذنب عليهم أمام الواحد القدوس في أعلي سماه.

الحقيقة أن الحلال و الحرام قد حفره الله علي قلوب البشر  منذ بدء الخليقة بوصايا مقدسة. وحين تحجرت قلوب البشر
نقش الله الوصايا العشر مرة أخري علي ألواحٍ من الحجر.

عسي بعقولٍ لم تقرأ شريعته المحفورة علي القلوب إذا رأتها مكتوبة علي الصخر أن تدركها و تعمل بها. و لعل هذا ما قصده أيضاً السيد المسيح حين قال لليهود حوله ,, بل وللبشر أجمعين,,, {لو سكت هؤلاء فالحجارة تصرخ.} ودعوتي لنفسي قبل الآخرين,,

أن لا تتعلق ضمائرنا بمحاكم الارض  ولا تشريعاتها. فهي لا تملك تحليل ما حرم الله و لا تحريم ما حلله.

فقضاة الأرض سيأخذون ما لقيصر لقيصر وأما قاضي القضاة فسيعطي ما لله لله .

هذا أمره وهذا قانونه وهذه شريعته.

التعليقات

أخبار ذات صلة

صفحتنا على فيسبوك

آخر التغريدات